تخفيضات الصيف - خصم %20 على جميع الكتب. شحن مجاني في دولة الإمارات العربية المتحدة

فائدة في بيان آثار الأنوار

فائدة في بيان آثار الأنوار

  • 28 June, 2024
  • الشيخ أيمن حمدي الأكبري
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون [الأنعام: ١].

وبعد

فليكن دأبكم أيها الأخوة والأخوات الأحبة عندي، والحافظين لعهدي ألا ينتزع أحد منكم سرا، ولا يلقي في قلوبكم غير ربي أمرا. قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين) [الأعراف: ٥٤]، فلننظر إلى قوله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: ٥٤] ، فعالم الخلق عبارة عن عالم الصور المادية المدركة بالحواس، وعالم الأمر هو عالم الأرواح النورية، وهذا هو التقسيم الأوسع الأشمل والذي يسهل بالنظر إليه إدراك ما أود أن أطلعكم عليه.

فعالم الأرواح النورية هو الأعلى مرتبة، والأسبق وجودا، ومن المعلوم أن المتأخر زمانا أو مرتبةً لا يدُرِك المتقدمَ عليه الأسبق له إدراكا تاما، ومثاله فإن الابن لا يحيط إحاطة تامة بالأب أو الأم، بينما الأب أو الأم يحيطان به لكونه لاحِقٌ لهما، وإن غفلَ عن مثل هذا أكثرُ الأبناء، كذلك فإن عالم الأمر من الملائكة والأرواح لهم الإحاطة والعلم والشهود بما في عالم الخلق من الأكوان والأشخاص والصور الجسمانية، والله محيط بالعالمين.

وقد قال رسول لله صلى لله عليه وآله وسلم: «إن لله سبعون حجابا من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدركه بصره»، وفي رواية سبعون ألف حجاب، والجمع بين الروايتين يعطي أن في كل حجاب ألف حجاب، فعالم الأرواح عبارة عن الحجب النورانية، وعالم الأجسام عبارة عن الحجب الظلمانية، ولا شك عندنا بالمعاينة أن الأنوار تبدد الظلمات وتقهرها، فهذا تأسيسٌ أول.

ثم إن الأنوار على مراتب، فمنها الأنوار المجردة عن الأجسام كالعقل الأول وهو القلم، والنفس الكلية وهي اللوح والطبيعة الأولى لا الطبائع العنصرية، والهباء والجسم الكلي والشكل، فهذه الأنوار الأكثر قهرا لما تحتها، ثم الأنوار ذات الأجسام النورانية كالعرش والكرسي والأرواح الملائكية، ثم أنوار أرواح الأفلاك ذات الأجسام الطبيعية لا العنصرية، ثم أنوار أرواح الكواكب ذات الأجسام العنصرية، ثم أنوار أرواح المولدات من الجن والإنس والحيوان والنبات، ثم أنوار أرواح الجمادات.

وقد قلت إن تقسيم العالم إلى أمر وخلق هو التقسيم الأشمل الأوسع، وإلا فإن كل من العالمين على أقسام، فمن عالم الأنوار: العالم الأعلى وهو الحقائق الكلية؛ أعني القلم واللوح والطبيعة والهباء والعرش والكرسي، كذلك حقيقتي الجسم والشكل؛ أعني الجسم الكلي لا الأجسام، وحقيقة الشكل، وهي حقيقة مجردة عن الصورة.

أما العالم الأوسط فعبارة عن فلك البروج وفلك المنازل والسموات السبع، والعالم الأسفل هو عالم المولدات؛ أي الأشخاص العنصرية المتولدة كالجن، والإنس، والحيوان، والنبات، والجماد، غير أن عالم الأمر لا ينفصل عن عالم الخلق، فصور الكواكب من عالم الخلق، وأرواحها المدبرة لها من عالم الأمر، وعالم الأمر عالم الملكوت، ومن أراد أن يدرك التداخل فلينظر إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين} [الأنعام: ٧٥].

فأعلمنا الحق تعالى أن للسموات والأرض ملكوت؛ أي أرواح نورية مدبرة، وأن اليقين إنما يكون بحسب اطلاع العبد على هذا الأمر، فهذا تأسيسٌ ثانِ.

ثم اعلموا أنَّ إحاطة الله تعالى بالعالمين إحاطة علمٍ وشهود، وأنَّ علمه قديم؛ أي أنه تعالى يعلم كل ذرةٍ تنشأ في السموات والأرض وفيما يعلم من العوالم عِلْمًا قديمًا وشهوداً حاصِلا تامًا في حالتي عدم تلك الذرة ووجودها على السواء، وذلك لحصول كل ما أشرنا إليه في عِلْمِه القديم؛ أي في حال عدم العالم قبل إيجادِه، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان الله قد استفاد مِن مخلوقاته عِلمًا لم يكُن عنده، وهذا محالٌ في حَقِّ الحقِّ تعالى، فهذا تأسيسٌ ثالث.

ومِن ذلك ندُرك أنَّ كلَّ شخصٍ مِن أشخاص العالم لَه صورة معلومة مشهودة للحق تعالى في علمه القديم، تلك الصورة هي حقيقة ذلك الشخص أو الكون، وقد غلط جماعة من الحكماء فظنوا أنها ماهية الشخص، غير أني أقول إنَّ الماهية عندهم توصَف بالعدم، أما تلك الحقيقة وإنْ كانت في تلك الحالة عَدَمٌ في حقِّ نفسِها إلاَّ أنها باعتبارها معلومة مشهودة للحق تعالى فإن لها وجه إلى الوجود، ولذا أقول إنها هوية ذلك الشخص لا ماهيته، إذ الهوية عبارة عن حقيقة الشخص المعين في غيبٍ ما كما تقول على الشخص المعلوم لديك في حال غيابه (هو).

واعلموا أنَّ تلك الحقيقة قد يعُبر عنها بالعين الثابتة، لتعينها في حقّ الحقّ تعالى وثبوتها عنده، بمعنى أنَّ حقيقتك عنده ثابتة مهما طرأ على شخصِك مِن التغيرات، وقد أشرتُ إلى خطأ مَن وصفها بالماهية العدمية، وقلتُ بأنها الهوية، لأنَّ لها وجه إلى الوجود ووجه الى العدم، ولذا تسمَّى أشخاصُها بعالَمِ الإمكان، فمِن وَجْهِ عدمِها تمتازُ عن واجبِ الوجودِ تعالى، ومِن وَجْهِ وجودِها يترجَّحُ إيجادَها بصدور الأمر كُن، وهذا تأسيس رابع لابد منه للسالك على طريقة الشيخ الأكبر، إذ طريقته رضي الله عنه طريقة تكميل في العلم والعمل، و الاعتقاد والأخلاق، وأرجو أن يكون كلامي هذا على ما أستطيع من التبسيط، فمَن علِم ما سبق سهُل عليه ما سوف أعرضه عليكم.

إذا فلكلِّ شخصٍُ عينٌ ثابتة في عِلْمِ الله القديم، وهذه الأعيان مِن جواهر كنزه المكنون. قال تعالى: «كنت كنزا لا أُعرف فأحببت أنْ أعُرف فخلقتُ الخلق، فبي عرفوني»، وللحديث روايات أخرى، وأحب هذه الرواية لما تلقيته عن أحد شيوخي فيها واسمه الشيخ أحمد القصبي، وقد قال لي: يا أيمن، كم عدد لفظ «فبي»؟ فقلت: ٩٢، لأن الفاء عددها ٨٠، والباء عددها ٢، والياء عددها ١٠، فقال لي: وما عدد اسم محمد؟ فقلت له الميم ٤٠، والحاء ٨، والميم ٤٠، والدال ٤، فالمجموع ٩٢، فقال لي رضي الله عنه: وكذلك لا نعرف الله إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم. ورحم الله هذا الشيخ ورضي عنه وأدخله جنته ورضى عني وعنكم وعن جميع شيوخنا.

واعلموا أنَّ مِن جواهر ذلك الكنز أسماءه تعالى، ولا نعلم منها إلا ما تعلق به وجودنا، فلا نعلم من أسمائه إلا ما أبرزه لعلمِنا مِن أجلنا، ومن هنا جاز لنا التعلق والتخلق والتحقق بما أعلَمَنا مِن أسمائه سوى اسمه تعالى «الله»، فإنه مخصوص به التعلق لا غير، أما التخلق بأخلاق الله فعبارة عن التحلي بأخلاق أسماء لله التي أبرزها لنا، وهذا تأسيس خامس.

ولما كانت غاية طريقتنا العلم بالله تعالى ومعرفته؛ والباء في قولهم: «العلم بالله» للواسطة، أعني أنَّ غاية سلوكنا معرفته به، ووسيلتنا العبادة بما تشتمل عليه من الذكر والمذاكرة والرياضة التي هي التهذيب، والمجاهدة؛ كان لزاما علينا معرفة كيفية السلوك إليه به، فلا نعرفه بفكرنا، ولا نطلبه من غير الطريق الذي شرع لنا السلوك عليه. قال صلى الله عليه وسلم: «أول شيء خلقه لله تعالى نوري»، فكل طريق من طرائق المعرفة لا يكون فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو المقدم، فهو عندنا ليس من الطرق الموصلة لله تعالى وإن كان فيه ما فيه من المعارف، وحقيقته صلى الله عليه وسلم هي الأسبق بالرتبة، وهي الأسبق على الزمان أيضا، فما حدث الزمانُ إلا بعد تمام خلق الأفلاك والكواكب ودورانها، لذا فلا يطمع أي مخلوق في إدراك حقيقته صلى لله عليه وسلم سوى ما أعلمنا به من أوليتها.

والحق أقول لكم أن لأوليته صلى الله عليه وسلم في الإيجاد وجوها: فمنها أنها حقيقة الحقائق والحق المخلوق به، والقلم الأعلى والعقل الأول.

وأقرب الأوجه التي يمكن للعقول قبوله متى عرفت به إنما هو العقل الأول أو القلم، وإنما سموا هذا الوجه بالعقل من حيث كونه يعقل عن الله بلا واسطة، وسموه القلم من حيث كونه المتلقي عنه تعالى بقوله: اكتب وأنا أملي عليك، وقد قيل إن مِداد أو حبر القلم الأعلى فيه، وقيل إنَّ مداده العلم القديم، وقد أقسم به تعالى في قوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون}[القلم: ١] ،

والنون هنا عبارة عن الدواة فما كان في علم الله مما أشرنا إليه فإنه في مداد ذلك القلم الأعلى، وكما أنَّ لكل شخصٍ مِن أشخاص العالم عينا ثابتة في علم الله، فكذلك له مثال في القلم، فأمثالنا في هذا القلم الأعلى لا تمتاز عن بعضها البعض، ولا تدرك ما سوف تمتاز به في أحوال تشخصها، ومثال ذلك قطرة الماء في البحر؛ فإنها لا تدرك من حيث شعورها كونها قطرة، بل كل قطرة تشعر أنها البحر كله، كذلك الأمر في الأعيان الثابتة قبل أن تتشخص وبعد تشخصها لثبوتها في علم الله مع تغير أحوال أشخاصها كما أشرت سابقا؛ أعنى أن كل عين من تلك الأعيان مذهولة عن وجودها وما شمت له رائحة لاستغراقها في الوجود الحق؛ ولذا أسماها الشيخ الأكبر حروفا لبساطتها ووحدتها وتجردها، وقد قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في الأعيان الثابتة:

كُناَّ حُرُوفا عَالِياتٍ لَمْ نقلْ

مُتعَلِقّاتٍ في ذرى أعْلى القللْ

أنَا أنْتَ فيهِ وَنَحْنُ أنْتَ وأنْتَ هُوْ

والكلُّ في هُوَ هُوْ فَسَلْ عَمَّنْ وَصَلْ

أما الأكوان المركبة متى جرى عليها أمر الإيجاد، فهي كلمات الله المعبر عنها في قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: ١٠٩] ، وهذا تأسيس سادس.

ثم إنه لما قال الله تعالى للقلم «اكتب وأنا أملي عليك» لم يكن القلم لهيمانه في الله يعلم أنَّ الله قد خلق غيره، وإن كان تعالى خلق من فيض نوره الأول الأقدس في غير زمان القلم والملائكة المهيمين واللوح والهباء وغير ذلك مما لا يعلمه الا الله تعالى، وقد كان سبحانه خلق القلم الأعلى باعتبار أوليته وسبقه بنظر اسمه البديع لكونه أبدعه على غير مثال سبق، وهيمه في نوره تعالى، فلما سأل القلم الأعلى سؤال حال: وفيما أكتب، بعث الله له منه بنظر اسمه الباعث اللوح الذي يكتب فيه، فكان اللوح للقلم كحواء لآدم؛ خلقها الله من ضلعه، وكتب القلم في اللوح ما كان ويكون، فمنزلة المكتوب في اللوح للقلم واللوح؛ منزلة الذرية لآدم وحواء عليهما السلام، وكل شخص من أشخاص الأكوان له مثال مكتوب في اللوح أيضا، ثم كل ما انتقش في اللوح له تنزل في الطبيعة ثم له أمثال في الهباء، وهكذا في كل مرتبة من مراتب الأكوان كالعرش والكرسي، وقد أعلمنا الحق تعالى بذلك في مثل قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: ١٢]، فلازال عالم الأمر يتنزل من الكرسي إلى السموات إلى الأرض، حتى برزت أشخاص عالم الخلق، وهنا سر عظيم نبه إليه ابن حجر الهيثمي في كتابه المولد النبوي حيث قال:

وإن اسمه صلى الله عليه و سلم في السماء الأولى المجتبى، وفي السماء الثانية المرتضى، وفي السماء الثالثة الزكي، وفي السماء الرابعة المصطفى، وفي السماء الخامسة النبي، وفي السماء السادسة المطهر، وفي السماء السابعة القريب، ويسميه أهل الجنة عبد الديان، وتسميه الحور عبد المعطي، واسمه على ساق العرش رسول الله، وعلى لواء الحمد صفوة الله، وعلى باب الجنة خيرة الله، واسمه على القمر قمر الأقمار، وعلى الشمس نور الأنوار، ويسميه القلم عبدالحق، ويسميه الرعد عبد الوكيل، وتسميه الأحجار عبد الجليل، وتسميه الطيور عبدالقادر، واسمه في القرآن نون، وطه، ويس، واسمه في صحف إبراهيم كهيعص، صلوا وسلموا عليه. وقد قال ابن عباس في معنى قول لله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: ١٢]، قال: إن في كل سماء ابن عباس مثلي، فاعتبر أن لك صورة متعينة في علم الله أولا، ثم إن لك صورة مقدرة في مداد القلم الأعلى، ثم إن لك صورة في اللوح المحفوظ، وهكذا.

واعلم أن كل صورة مستغرقة في أنوار فيض الله حتى أنها لا تعلم من هي على التخصيص؛ فإن مثالك المشار إليه في القلم الأعلى لا يعلم أنه أنت بل لا يعلم إلا أنه القلم الأعلى، فاحذر؛ فهذا مثال للتقريب مما لا يبوح به أهل طريقتنا بغير اصطلاح إلا في مثل هذا الموطن؛ أي لا يقوله من قاله منهم إلا لحامل سره وكاتمه، ونستغفر الله، وهذا تأسيس سابع، وأخير لما أردت أن أطلعكم عليه.

وفائدة ذلك أننا لو فرضنا أن السالك قد تجرد عن هيكله ووصل لدرجة من الاتحاد مع مثاله في القلم الأعلى مثلا أو في السماء الأولى أو في التراب، فإذا اتحد مع التراب جهل أنه نفس الشخص لفنائه عن نفسه واستغراقه فيما اتحد به من حيث الشعور، فأدرك أنه مجرد تراب، وإذا اتحد مع مثاله في السماء الأولى جهل من هو من حيث شخصه لفنائه عنه، إلا من عرج به معراجا روحانيا في سماء معنى، وهذا معراج الانسلاخ حيث تتجرد عن هيكله فيجول في السماء وقد تلبس بصورة مثاله فيها، فيدرك بمداركها، وهكذا حال العارج عند كل كون ومرتبة، ومن هنا فإن العارف قد يعلم في لحظة من لحظات الفناء ما لا يستطيع حصره من العلوم، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى بعض ما وراء طور العقل من الإدراك في حديث «رأبت ربي في أحسن صورة»، وفيه أن رب العزة سأله أتدري يا محمد فيما يختصم الملأ الأعلى؟، وفيه أنه تعالى وضع كفيه بين كتفيه فأحس ببرد أنامله يسري بين ثدييه الشريفين -يعني حضنه- فعلم فيما يختصم الملأ الأعلى، وفيه فعلمت علم الأولين والآخرين.

كذلك إذا تجرد العبد عن هيكله ونظر إلى اللوح، أو إلى غير ذلك من الأكوان.

ثم أقول: عود على بدء، فعالم الأنوار أعلى وأقهر لعالم الظلمات، وعالم الأمر يحرك عالم الخلق، غير أن التحقق بمعرفة ذلك لا يكون إلا بالسلوك على طريقة القوم والاطلاع على ما وراء ما قدمنا له.

ولمّا كنت أيها الإنسان مِن أمر وخلق؛ أعني نور وظلمة، فالنور للروح والظلمة للجسد، وقد حمّلك الله الأمانة التي تستلزم التخيير، فكان لك أن تحكم الظلُمة في النور، والنور في الظلمة، فإن أردت الموافقة بطلب التوفيق جعلتَ شأنك كله ما استطعت موافقا الناموس الإلهي في الكون، الذي هو عبارة عن تحكم النور في الظلمة، ومن عصى وأبى وقال أنا الحُر المخير تكبرًا خالفَ الناموس وأبرز امتيازه فسلط ظلمةَ جسمانيته على نور روحِهِ، وهذا هو البلاء المبين؛ أعني الذي يبين كيف أن الإنسان ظلوم جهول.

ومن هنا كان من الواجبات موافقة الناموس الإلهي والاجتهاد في تغذية عالم نورانيتك حتى لا يكون مقهورا تحت سطوة الظلمانية.

وأول ما يمكن أن نبينه إنما هو رياضة النفس التي هي البرزخ بين النور والظلمة وهي المحركة للجسم المساعدة له في التمادي في السير في عالم الظلمات.

وللنفس طريقان في الغذاء:

طريق الجسم، وطريق الروح؛ لكونها برزخ بينهما.

فأما طريق الجسم فمعروف لكل شخص ذوقا، فما دام الإنسان يمد نفسه عبر جسمه بالغذاء فهي قائمة بحسب ما يمدها به من الأغذية النباتية والحيوانية، اللطيفة والكثيفة، الطيبة أو الخبيثة.

ثم إنَّ لها غذاء من حيث روحها، وإن كان يصلها من حيث الجسد أيضا، وهذا مِن أعجب الأسرار، فميل النفس للجسم أعظم من ميلها للروح، ولذا لا يصلها غذاء الروح إلا بطريق القلب الذي هو مسكن الروح. وللقلب خمسة شبابيك مفتوحة على الجسد، كل شباك مفتوح على حاسة من الحواس الخمس؛ أعني السمع، والبصر، والشم، واللمس، والذوق.

ومنها تدخل الأهوية إلى ساحة القلب، فإما أهوية طيبة، وإما خبيثة بحسبِ ما اكتسبته الحواسُ مِن الأغذية التي أشرتُ اليها.

ولمّا كان للنفس اتصالٌ بالقلب مِن هذا الوجه، فمهما سعى الإنسانُ إلى تحري غذاءَ جسمِه الذي تتغذى نفسُه عليه لطفت النفسُ، ومهما استجلب لها الأغذية النورانية بطريق الاستهلاك في الذكر والفكر والحضور في مقام الإحسان تلقت الروح الأنوارَ وألقتها في القلب، فكانت غذاءً للروح التي لطُفت، وعلى قدر مراعاتك للشبابيك الخمسة حجبتَ النفسَ حال الذكر عن الأهويةِ، فاشتعلت فتيلتها في القلب فأنار.

وليس كلامي هذا بطريق المجاز؛ بل هو صورة ما يحصل مِن اشتعال فتيلة النفس التي تقبل الاشتعال لكونها نارية، فمتى اشتعلت والمرء مُعَرِّضُها للأهواء تبدد نورها، وزادت نارها فأشعلته غضبًا وشهوة وما شابه ذلك، ومتى اشتعلت وأنتَ حافظُها عن الأهواء مُمِد لها بزيت الشجرة المباركة صارت نارُها نورا.

إذا فقد عرفنا أن الواجب علينا والنافع لنا أن نحفظ القلب الذي هو مسكن الروح ومحل غذاء النفس من الجهتين؛ أعني أن الغذاء الذي تجلبه الحواس يصب في القلب، وكذلك الغذاء الذي تجلبه الروح؛ فإن القلب عبارة عن جسم وروح، فجسم القلب معروف، وروحه أو حقيقته عبارة عن هيئة اجتماعية من «العلم والاعتقاد والعمل والأخلاق».

فكمال اتصال الروح بالقلب في حال اعتدال مكوناته الأربعة.

ومن هنا لزمت الرياضة، وأفضل الرياضات ومفتاحها الرابطة، ولكن يستحب لصحة الرابطة استعمال خلاصة ما ذكرتهُ في التأسيسات السبعة وما لحَقَ بها؛ أعني أنْ يرتاض السالِكُ على أن يغلب نوره على ظلمهِ؛ وذلك بأن يستحضر أولاً أنه مُرَكَّبُ مِن نورٍ وظُلمة؛ أي أنه كما يدٌرِك بحواسه وجوده الجسماني الظلماني فليجتهد بخياله أن يرى صورته النورانية، أو يعقل وجودَها، أو يستشعره؛ بحسب ما يقدر عليه مِن الجمعية، فقد عَلِمَ أنه روح وجسد. ولينظر إلى قلبه لحظة، وليعتبر مثال الشبابيك، وليَجعل همَّته في ألاَّ يدخلَ قلبَه شيءٌ مِن جهةِ الحواس، وليرُاقب أنفاسه فإن في ذلك مبدأ الحضور للنفس العاقلة.

ثم يستحضر صورة شيخه بعين خياله؛ والاستحضار مقام الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، وهذا وجه أول، أما الوجه الآخر فهو حق اليقين؛ أعني أنه يراك.

وأصل الاستحضار أن يجلس المريد للذكر ويتهيأ له بأن يستحضر أنه بين يدي ربه تعالى، فإن لم يستطع فليستحضر أنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يستطع فليستحضر أنه بين يدي شيخه الذي عليه مدار طريقة سلوكه، فإن لم يستطع فليستحضر أنه بين يدي أستاذه الذي لقنَّه وعاهد الله على طاعته لما فيه صلاح أحواله، وذلك لما يعطيه الاستحضار من السكينة والخشوع.

ولمَّا كان الدوران في فلك الإحسان لا يقدر عليه إلا أصحاب الهمم العالية؛ نبهَّ الشيوخُ إلى ضرورة أن يستعين الطالب على ذلك برياضة نفسه على الرابطة؛ وهي استحضاره صورة شيخه.

فإذا تم له ذلك فيستحب أن يبدأ ذكره بالاستغفار، وبخاصة قول «أستغفرُ الله» مع مد الألف قبل الهاء في اسم الجلالة، وله أن يذكر الله تعالى بعد ذلك بأي ذكر بحسب ما يعطيه الوقتُ والحال، ويستحب الذكر الواحد، كذكر الاسم «الله»، وليختم جلسته بما تيسر من القرآن أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أي توجُّهٍ مِن توجهات الحروف، وذلك للمريد الأكبري.
شارك:

1 تعليق

Norhan Abd Elaziz

July 20, 2024

رضي الله عنكم ونفعنا بعلمكم 🤲

اترك تعليقا

يرجى ملاحظة أنه يجب الموافقة على التعليقات قبل نشرها