سلة التسوق الخاصة بك فارغة الآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله الذي علم بالقلم، وصلى الله على ممد الهمم بالقيل الأقوم، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.
فإن الحروفَ مادةُ الأسماء، وهي ذواتٌ وأرواحٌ وأجساد، وأفرادها لا تنحصر في عوالم التشخصات، فإن أصل الحروف والكلمات ربانية، قال تعالى: ﴿قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا١٠٩﴾ [الكهف: 109]، ثم تتشخص أرواحُها حروفًا وكلماتٍ مُحدَثاتٍ باللفظ والرقم، وتلك المحدثات مظاهرٌ ومُثُلٌ لما هي دالةٌ عليه، ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ٩٦﴾ [الصافات: 96]
والحروف الأصلية ذوات نورانية، لها أرواحٌ روحانيةٌ على مراتب في المنازل، ولها من لدنها تنزلاتٌ نورانية مَلَكية، ودوراتٌ تقديرية فلكية، وتصاريفٌ ملكوتية أمريه في الأكوان الخلقية المُلكية، ولكن عامة الناس محجوبون بالأشكال، التي هي صورٌ للحروف النورانية وأمثال. فإن للحروف أربعة مراتب وجودية، لفظية ورقمية وذهنية وعينية، فوجودها العيني عبارة عن تلك الذوات النورية، أمَّا الحروف اللفظية فعبارة عن تشكلاتها ومُثلها في الهواء، يخلقها الله بالفظ المتكلم ويتلقاها سمع المخاطَب، وكذلك الرقمية عبارة عن تشخصها ومُثُلها في الصحف، والحروفُ الذهنية برزخٌ بين حقيقة الحرف وتَشَخُّصِهِ، وتلك التشخصات الثلاثة مواطنُ ومَحالُ تنزلاتِ الحروفِ العينية، فإن صلُحَ المحلُّ واستوى، تلقَّى روح الحرف فحصل عن ذلك التوجه ما خص الله به الحروف من التصاريف.
وصلاحُ المرقوم بحسب حُسن الخط، وصلاح الملفوظ بحسب سلامة آلة النطق، أم الصورةُ الذهنية البرزخية فمهما ماثلت عينَ الحرفِ كان عنها حصولُ التصريف، كما كان عن اللفظية والرقمية بروز المعاني.
وعِلْمُ ذلك هو العِلْمُ الذي اصطلح أهلُ الكشف على تسميته بعِلْمِ الأولياء، وهو علِمُ الحروف.
وفي السطور التالية مقدماتٌ هي مفاتيح بابٍ من أبواب الولوج إلى هذا العلم الجليل، وهو العلم الذي اختص به الحق تعالى الخاصة من ورثة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وقد قال: أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابُها.
فأقول وبالله التوفيق:
حرف الألِف
الألِفُ له القيومية على الحروف، والغنى عنها، والإحاطةُ بها، فهو النفَسُ الساري فيها، وبروزها عنه، وتتمايزُ صُوَرُ البروزِ بحسب المخارجِ التي هي حدود انقطاع هواء الألف الأصلي.
وأوَّلُ ما برز عن حركة الألف؛ الواو والياء، فالواو للجمعية والعلو فلها التمام، ولذا جاءت في الرتبة السادسة، ورتبة الحرف عبارة عن روحه وقوته، وهي ما يسمى عدد الحرف، فيقال في الواو أن عددها ستة، ويُنظر إلى خاصية العدد عند أهل ذلك الفن، فيفيدك ذلك معرفةً بالحروف.
أما الياء فعبارة عن حركة الألف في التنزل ولها الكمالُ، فأعطيت من الرتب العاشرة.
وليس في اسم الألف من مظهره شيءٌ، إنما دلَّ اسمه على ما تعطيه حقيقته من الألفة والتأليف، وسائر الحروف تُظهرُ أسماؤها مظاهرَها اللفظية، فيقال حاءٌ، ودالٌ، وراءٌ، وسائر الحروف، فيكون لفظ الحرف في صدر اسمه.
وكالألف مظهره الذي هو الهمزة، فليس في بسائط اسمه من لفظه شيء، فكان الهمزة مظهر الألف الذي يُظهره بروح الفتح، وكذلك الواو تظهر عن الهمزة بروح الضم، والياء بالكسر، فإنه لا طاقة للنطق على تمثيل الألف لفظًا إلا بواسطةٍ، فكان الهمزة أقرب واسطة لإبرازه، فهو مظهره، والهمزة أدم الحروف لأنه على صورة الألف المعنوية، فندرك به مخارج الحروف، كأن نقول: إد، إز، إط، فندرك المخرج على التحقيق بالتسكين.
همزة اللفظ لم تزل تتبدى
فهوَ مِثْلٌ وليس كالمِثْلِ شيءٌ
إن تراهُ فقد رأيتَ المُسمَّى
عنه في عالم الحروف ذواتُ
وهو يُنبي وكم تنوبُ سماتُ
ثُمَّ في الوصلِ تسكُنُ الحركاتُ
ألا ترى إلى الهمزة إذا تقدمت على سين السر وميم المظهر كان المجموع لفظ “اسم"، والاسم دال على مسماه، كما يقال: سَمَّ الشيءَ أي خصَّه، وقيل إن الاسم من السمة، وقيل من الوسم، وقيل من السمو أيضا، وعلى أي وجه فالهمزة للإشارة، واجتماعها بالسين والميم أعطى لفظ "اسم"، وقس على ذلك تجد علمًا جمَّا.
فالألف قد تدل على الذات، وعلى القائم بالأمر، فهو في الحروف كاسم الله في الأسماء.
والهمزة اسمٌ لأول مظهر لذاك العلي كما في اسم إله، وهو الاسم الدال على الحق تعالى في أول مراتب ظهوره، وهي مرتبة الألوهية، فالهمزة من الألِف كاسم إله من الله.
وكذا تدل الهمزة على الخلفاء، وهم نواب المستخلِف الملك العلي، كما نابت عن الألف.
والواو عبارة عن العلو، لما فيها من روح الرفعة بالضم، ولذا ظهرت في اسمه الولي، كما أن الياء إشارة لكل تنزل بما فيها من روح الخفض، فهي يُسر ويقين، فيها أسباب التمكين، ألا تراها دالة على المِلك، كما يقال: لي، وبي، وكقوله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ١٤﴾ [طه: 14]
وكما أن للعبد أن يتخلقَ بالاسماء، وهو أن يرتدي كسوة أخلاق الاسم المعين، كذلك له أن يتخلق بأخلاق الحرف المعين، وأن يتحقق به أيضا، فإن الحرف مُسَمَّى، واسمه دالٌ عليه، ولكل مسمى ذاتٌ وصفاتٌ وأخلاقٌ وغير ذلك، فيصح معه التعلق والتخلق والتحقق، عند مَنْ عَلِم أنَّ الحرفَ تجلٍّ لاسمٍ إلهيٍّ كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وقد قلت في هذا شعرا:
فجُدْ لي بِمَا أضْمَرْتُ مِنْ طلبٍ وما
وحقق إلهي كُلَّ حرفٍ بذاتنا
أصرِّحُ وانسبني إلى إسمكَ العالي
وصلِّ على خير الخلائق والآلِ
ويكون التخلق والتحقق برياضة النفس والتفكر في الحرف حتى ينتقش في وجدان المتوجه، فإن الحروف أرواحٌ في المنازل، ومتى انتقشت أخلاق الحرف في لوح حس المتوجه حصلت المناسبة بينهما فتنزلت روح الحرف وتوجهت بطلب الاستجابة إلى حضرة الاسم الإلهي الحاكم على الأمر المطلوب، فحصل بتقدير العزيز العليم.
والتخلق بالألف عبارة عن طلب الاعتدال وحصول الاستقامة، كما قال تعالى: ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ ٞ١١٢﴾ [هود: 112] ، ومن أراد أن يتخلق بأخلاق الألِف فليتعرف عليه من اسمه، فإن فيه مع الاستقامة جمعية الأحد، ولطف اللطيف، وفطرة الفاطر، وغير ذلك مما تعطيه حروف اسمه، وتقف عليه بعد حين. فأما أحديته فعبارة عن جمعيته لما يتألف عنه من الحروف عند حدود مخارجها، وأما لطفه فعبارة عن خفائه وسريانه في سائر الحروف، وأما الفطرة فكونه هيولى الحروف التي فطرها الخالق تعالى منها.
فإن سألتَ عن التخلق بأخلاق الواو دللتك على النظر إلى ما تعطيه من العلو والجمعية، فترقى عن السفاسف علوًّا، وتترك ما يحول بينك وبين الفناء في الجمعية العليا.
حرف الياء
وأما التخلق بالياء فعبارة عن التنزل بالخفض إلى رتبة العبودية لإظهار قيومية الحق تعالى، وقس على ذلك وتأمل ما هنالك، كما قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ِ٣٨﴾ [آل عمران: 38] فإن النظر إلى الحروف محراب التجريد، واطلب ما وراء ذلك، بسر ﴿ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ ١٥﴾ [ق: 15]، فإن واو الوالد ليست هي واو الولد.
ولما كان الهمزة مظهر الألف، وجبَ عليَّ أن أشير إلى ما تعطيه حروف اسم الهمزة بإيجاز، فإن أوله هاء الغيب الذي هو إشارة إلى صدورها من غيب الصدر، والميم المعبر عن تمام مبدأ التكوين، كقوله تعالى: ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ َ١٥﴾ [الأحقاف: 15] وقوله: ﴿وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ٥١﴾ [البقرة: 51]، ثم انظر إلى حرف الزاي وما يعطي من التزكية، وهي خلوص الشيء مما يشوبه، ثم يكون عود اسم الهمزة إلى بدئه ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ١٢﴾ [النحل: 12].
حرف النون
لما كان الكلام عن الألف والواو والياء معبِّرًا عن أرواح الفتح والرفع والخفض، كان الكلام في النون يصلح لهذا الموضع بما هي جامعة لما تقدم من الأرواح، وذلك عند ظهورها في عالم الحركات المسمى تنوينًا، والذي هو جماع تلك الأرواح، فالنون غاية الظهور كما في اسمه تعالى النور، وأسرار عود اخره على أوله لا تخفى كما هي في الواو والميم، وتمتاز بجمعية الواو الذي تصل أولها بأخرها، والتنوين يعطي التعريف، فيقال: قام رجلٌ "، فناب التنوين عن الف لام التعريف، فالنون حرف علم ومعرفة، قال تعالى: ﴿نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ١﴾ [القلم: 1]، والنون الدواة، ومنها المداد والإمداد، واسم النون دال على رفعتها لأن قيام اسم النون بالواو، ودل أيضًا الى معاني الاستواء بالنظر إلى بدء الاسم وختامه، فإن كل اسم تساوى روح بدئه وختامه يعطي الاستواء، وما كان روح ختمه أدنى يعطي الدنو والتنزل، كالباء فصدره اثنان وختمه واحد، وكل حرف زاد روح ختمه عن روح بدئه فيعطي الرفعة والعلو كالجيم، والكلام في أسماء الحروف من العلم المكنون، ألا ترى الحق تعالى لم يخاطِب أحدًا من أنبيائه بأسمائها إلا خاتمهم صلى الله عليه وعليهم أجمعين، فقال تعالى: ﴿الٓمٓ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ َ٢﴾ [البقرة: 1-2]
والتخلق بالنون عبارة عن التخلق بالعلم، والإحاطة بأسرار الفيض والإمداد، وطلب الاستواء الكمالي، والتحقق بالجمعية.
فليتأمل الواقف مع ما تقدم ما فيه من الأصول، فإن المقام لا يحتمل فيما يأتي بعد إلا الإيجاز، فإن بسط الكلام في أسرار الحروف قد ينتج مشاهدًا تهول الناظر إليها.
حرف الباء
لمَّا كان الألفُ أولًا، وهو القائم العلي، الذي لا يُتوصل إليه إلا بسبب كالهمزة، كما قال تعالى:﴿وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ ٣٥﴾ [المائدة: 35]، جعل سبحانه وتعالى الباء لثاني الرتب، وجعله سببا وواسطة كما قال تعالى: ﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٢﴾ [الفاتحة: 1-2] فكان الحمد بالاسم، وكانت الباء في معنى السبب والواسطة والحجاب، وهي لكل بدء كما في اسمه الباري واسمه البديع.
وانظر إليها في اسم باب، الذي هو سبب ولوجك إلى البيت، وهو الحاجب لمن وراءه، وكذلك في البدوِّ وهي الظهور، والبراعة وهي التميز والتقدم.
فمن طلب التخلق بالباء فعليه بالتنزل إلى منازل التسبيب بقضاء حوائج الخلق، ومراعاة خفض جناح العبودية لله بينهم.
حرف التاء
لمَّا كان الباء أول سببٍ، وكان السبب حجابًا على مسببه وإن دل عليه عند صاحب البصيرة، كان له أول العجمة، وكانت نقطة إعجامه تحتية لدنو حجابيته، والباء من الحروف المتواخية، ويؤاخيه التاء والثاء عند قوم، وأضاف غيرهم إليه في هذه المواخاة الياء والنون.
ثم لما زادت التاء في حجابيتها، وكانت تلك الحجابية حجابية علوٍّ زادوا في عجمتها نقطة إلى نقطة الباء، وجعلوا النقطتين فوقيتين، لما تعطي التوبة من الرجوع إلى العلي جل شأنه، فالتوبة سبب النجاة، وحجابيتها في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ ُ١١٨﴾ [التوبة: 118].
والتخلق بالتاء عبارة عن الرجوع للحق تعالى.
حرف الثاء
وهو أخو الباء والتاء في السببية، والعلو فيه بيِّنٌ وجليٌّ في اسم الثواب، واسم الثمرة، وله من الأسماء الإلهية اسمه الثابت.
والتخلق به عبارة عن الثبات في اعتقاد حصول الثواب على الأعمال، والثمرات عن الغرس والزرع، قال تعالى: ﴿ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ٦٤﴾ [الواقعة: 64]، فمن كان هذا نظره كانت عبادته خالصة لله تعالى لا ينظر إلى ثوابٍ أو ثمرةٍ، مع اليقين فيما هو حاصل ولا بد منهما.
والباء والتاء والثاء من حروف الدنو، والياء والنون من حروف العلو، وهي الحروف النورانية المقطعة في أوائل السور، ويجمعها قول: نصٌ حكيمٌ قاطعٌ له سر، وقول: طرق سمعك النصيحة، وقول: صانعك له طريق سمح.
ومن تخلق بحروف العلو فله الظهور بما جعل الله لها من التصريف، ومن تخلق بحروف الدنو فحاله البطون والخفاء.
حرف الجيم
الجيم وتر الباء، فعدده ثلاثة، وهو أول الأفراد، وله الاسم الجامع.
ومن أراد التخلق بالجيم فلينظر إلى معنى جمعيته وما تعطيه من استحالة الفقد، وفيض الوجود من حضرة الجود، كما هو جليٌّ في معنى اسمه الجواد.
حرف الحاء
هو أخو الجيم ويتوسل إلى الهمزة التي هل الخلافة في الإنسان، والألوهة في المراتب بالفتح الذي للألف، ففيه الظهور والعلو، ولذا ظهر في اسمه الحي واسمه الحكيم، واسمه الحق.
ومن تخلق بالحاء أفاض الحياة على النفوس بالهداية إلى مواطن الحكمة، والوقوف حكمة كل حُكم.
حرف الخاء
وهو أخو الجيم والحاء، وفوقية عجمته من كونه المظهر لما أراد الحق إظهاره، فكان له اسمه الخالق واسمه الخبير سبحانه وتعالى.
والتخلق بالخاء يكون بالنظر إلى خروج الخبيء من الكمالات التي أودعها الخبير في النفوس، بالمجاهدات المحرقة لخَبَثها العنصري.
حرف الدال
الدال شفع الجيم، وهو في المرتبة الرابعة، وللأربعة الكمال، فإن مجموعه مع مجموع أجزائه يساوي عشرة كاملة، أعني بأجزائه النصف، والثلث، والثلثان، ففيه معنى الإحاطة؛ ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ ٣﴾ [الحديد: 3] فهذه الأسماء الأربعة مدار معرفة الحق، وهو الدائم سبحانه، وللدال الثبات والتمكين، كما له سر التكوين، فإن الحرف جسمٌ وروحه عدده، ولا يخفى على الناظر ما تقوم عليه الأكوان من اسرار التربيع، كالطبائع الأربعة، والعناصر الأربعة، والأخلاط الأربعة، والأيام الأربعة التي خلق الله فيها السموات والأرض وجعل فيها أقواتها، وكالفصول الأربعة، والاوقات التي هي اليوم والأسبوع والشهر والسنة.
واعلموا أن التخلق بالدال عبارة عن النظر للتمكين بالدوام على الأعمال ظاهرا وباطنا.
حرف الذال
الذال أخو الدال، وعجمته عبارة عن حجاب دوام الدال وخفاء تلك الحقيقة مع حصولها، ومن ذلك الخفاء اسم الذرة، قال تعالى: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 7] ، وقد بان لنا في الألِف أن الأمر بين علوٍّ وتنزُّلٍ واستواء، ودوام الشيء يكون على وجهٍ من ذلك، وهو ما كانت به الذال متنزلة إلى أدنى المراتب صورةً كالذرة، ومعنى كالذل. ولذا فليس لحرف الذال اسم إلهي تدركه العقول.
والتخلق بالذال عبارة عن التحقق بالذل، فذلك العبد المعجم، أي الذي لا يتباهى على الخلق بشرف عبودته.
حرف الراء
الراء دوامُ العلو وظاهر التطوير، ولذا اختُص مع باء التسبيب بالاسم "رب"، ومع حاء الحياة وميم الملك بالرحمتين في الرحمن الرحيم بتفصيل مشهود بينهما.
والتخلق بالراء عبارة عن مداومة التطوير لبلوغ الكمال.
حرف الزاي
الزاي أخو الراء، وفيه ما فيه من التطوير، غير أن كل تطوير قد يشوبه النقص، ويخفى، ومن ذلك الخفاء أعجمت الزاي لتكون معبرة عن ازالة ما يعلق حال التطوير من الشوائب، أي التزكية منها بالمجاهدة لظهور العلو وحصول الترقي.
والتخلق بالزاي يكون لأهل المجاهدات والرياضات.
حرف السين
اعلموا أن أول متجلٍّ في حضرة الإيحاد هو السمع، وذلك لتلقي أمر تكوين، قال تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ٨٢﴾ [يس: 82] ، فلما تلقى السمعُ الأمرَ خرج الشيء إلى كون حركة حياته، وكمُنَ سر سكينته، فالسين ظاهره سعيٌّ وسفرٌ وسرعةٌ، وباطنه سكينة، فانظر له في السبب مع الباء، والسر مع الراء تدرك ما يطلبه التخلق به، ﴿وفَبَشِّرۡ عِبَادِ١٧ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ ١٨﴾ [الزمر: 17-18] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ٢٠٤﴾ [الأعراف: 204].
حرف الشين
واعلموا أن من نظر إلى المؤخاة التي بين السين والشين، شهد التنزل العلي، فإن تمام ما يظهر بالسمع يشهده البصر، وذلك من اسمه الشهيد، وهو أمر شديد، والخوض فيه مهول، فنقف على ظاهره، فإن التخلق بالشين عبارة عن ستر الأعمال، وإخفاء الأحوال، وهو حال الملامتية من أكابر أهل هذه الطريقة.
حرف الصاد
الصاد صِدقٌ كله، وهو مطابقة الظاهر للباطن، والتخلق به أمرٌ ظاهرٌ للمريد، فإن أول قدم يضعه على الطريق قدم الصدق، وأخر ما يصبو إليه مقعد الصدق.
حرف الضاد
والضاد أخو الصاد، انعجم عن غير القابل، فيتوهم أنه يضره الصدق، وتضعفه المجاهدة المنتجة لتطابق ظاهره وباطنه، وذلك من توهم القوة والعلو، نعوذ بالله أن نكون من الضالين.
والتخلق بالضاد عبارة عن إظهار الضعف والانكسار إلى المتفرد بالاقتدار، والدوران في فلك لا حول ولا قوة إلا بالله، ذلك الكنز العرشي الذي خص الله به آدم عليه السلام.
حرف الطاء
لما كانت التسعة منتهى الآحاد، وكانت الثمانية لحاء الحياة، جاءت الطاء في الرتبة التاسعة لإظهار حقيقة الحياة بالطهر، فهو الفلك المحيط الأطلس الذي لا علامة فيه، كما أن الطهارة عبارة عن خلوص التقديس من كل شوب، وهو المعبر عنه بالطاهر والطيب والطبيب.
والتخلق بالطاء عبارة عن التخلص من التعلقات، واجتياز العوائق الحائلة بين العبد ومعرفة الحق، والطاهرة بالخروج عما يميل بالنفس عن صراط الحق.
حرف الظاء
الظاهر ما لا يكون فوقه شيء، والظهير النصير، والظلم عدم التطهير، فالظاء اسمٌ للغلبة، والتخلق به عبارة عن مقاومة النفس ومنعها بغلبة العقل عن الظهور بشهواتها.
حرف العين
اعلموا أن الله تعالى لولا أرسل فينا أعلام الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، لما اهتدى لمعرفته أحد، فالعلم به هو العلم الحق والعيان الصدق، ولذلك كانت صورة العين في الرقم كصورة الهمزة التي هي عبارة عن الخلفاء من الأنبياء، والعلم بالشيء عبارة عن الإحاطة به إن كان ذلك المعلوم مما يحاط به، فإن لم يكن مما يحاط به كالحق تعالى، فالعلم به عبارة عن إدراك وجوده، وهو علم الإيمان المغني عن العيان، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ ٣﴾ [البقرة: 3]، وقال صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم" فجعل الدين علمًا.
ولذا تصبو عين العين إلى نون النور بياء التنزل، فمن أراد أن يتخلق بالعين فلينظر لكل ظاهر من كونه آية باطنه وباطن باطنه إلى سبعة أبطن، وهي السبعة التي للعين، فإن رتبتها السابعة في العشرات، فمن نظر هذا النظر عاين الحق تعالى وهو رب كل شيء.
حرف الغين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله سبعون حجابا من نور وظلمة"، وقال أيضًا: " إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله سبعين مرة" فهذا غين الأنوار الذي يغشى الأغيار، فيستغفر منه الرسول المختار، قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ١٠٧﴾ [الأنبياء: 107]، ليرجع إليهم ويحنو عليه فينظرهم بعين العفو، ويستغفر لهم.
والتخلق بالغين عبارة عن التخلق بالافتقار إلى الغني المغني، الذي غايته طلب الغنى عن العالمين.
حرف الفاء
الفاء كالحاء من حيث الرتبة، إلَّا أن الحاء الثامنة في الأحاد، والفاء الثامنة في العشرات، ففيه معنى المضاعفة والكثرة لما تعطيه الحاء من إحاطة علو الحياة والحكمة، ولذا فله الاسم الفاطر، والفاء يعطي معاني الكمال والتميز من اسمه الفرد.
والتخلق بالفاء عبارة عن طلب الفرقان بين الحق والباطل.
حرف القاف
القاف أخو الفاء، وقد زاد عليها في العجمة فعبر عن طلب منتهى الكمال، وهو سر القدرة من اسمه القدير، فهو حرف محيط، قال تعالى: ﴿قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ١﴾ [ق: 1]، وقال جل شأنه: ﴿ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ٣٨﴾ [الأنعام: 38]، فهذا من معاني إحاطة القاف.
والتخلق به عبارة عن طلب القوة من القوي للامتثال لأمره تعالى: ﴿ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ ﴾ [التوبة: 123]، وقوله: ﴿قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ ١٤﴾ [التوبة: 14]، وقوله: ﴿ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّةٖۖ ١٢﴾ [مريم: 12].
حرف الكاف
للكاف من العدد العشرون، فهو روحه، وهو وسطٌ بين باء البدء، وراء التطوير والزيادة، ففيه سر كفاية الكافي، فله ما تعطيه الراء من الكثرة في كاف اسمه، وله ما تعطيه الباء من البدء في فاء اسمه المعبر عن الفطرة.
والتخلق بالكاف بكفالة المحتاجين، فمن كان خُلقه هكذا، فهو في الناس كالكاف في الحروف، وهو على صورة اسمه الكافي، وعدده ١١١ كعدد ألَف، وعدد قطب، فتدبر تغنم.
حرف اللام
اللام في ترتيب أبجد له الاثنا عشر، وهو نهاية رتبة الأعداد، أعني تسعة للأحاد، والعاشر للعشرات، والحادي عشر للمئات، والثاني عشر للالف، فتمت مراتب الأعداد.
أما عدده الذي هو روحه فثلاثون، وهو مع الجيم عبارة عن الجلال العلي، وله اسم الله اللطيف، فهو اسم لكل تنزل.
والمتخلق باللام لطيف في إيصال الخيرات والمنافع للخلق.
حرف الميم
هو حرف كمالٌ، به يتم كل أمرٍ، وعددُهُ أربعون، ومنه اسم الملك، وأكثر أسماء الله الحسنى ميمية، والميم تعطي الاستواء والاعتدال عند من نظر إلى مبدئها وختمها، وفيها التنزل الاعتدالي،
وهو مبدأ اسم محمد صلى الله عليه وسلم، إلا ترى إلى صدر اسمه وتاجه يعطي التمام بما له من روح عدده، ويعطي العلو بروح الضم، ثم الحاء حياةٌ وحِكمةٌ، ومجموعهما يشير إلى المحو الأتم، فمحى الله به الكفر والشرك والجهل والظُلم والظلمات، ثم الميم الثانية المشددة بالفتح إشارة إلى ما له وبه من الفتح الأكبر، ثم دال الدوام والتمكين، فكان مجموع الشطر الثاني من اسمه يعطي ما له من المد، وفي الميم ما لا ينحصر الكلام ، ولذا كان به الختام هذا.
والتخلق بالميم كالتخلق بالواو والنون، إلا أنه يطلب كمال التنزل إلى الخلق بالإفادة والنفع.
أيمن حمدي الأكبري