ملاحظات حول اللغة السريانية

ملاحظات حول اللغة السريانية

  • 25 April, 2025
  • الشيخ أيمن حمدي الأكبري

يطلق اصطلاح السريانية عند الصوفية للدلالة على ألفاظٍ خاصة تختزل المعاني، ولا يقصدون بها اللغة السريانية القديمة ولا الحديثة، إنما هي ألفاظٌ تدل على أسماءٍ ومعاني لا يسعها الكلام، وقد قيل أن أهل الديوان من الأولياء يتخاطبون بها فيما بينهم لاختصارها، واتساعها عندهم لحمل المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، وقد تكلم فيها جماعة من العارفين، ولعل ممن بسط الكلام فيها الشيخ الولي عبد العزيز الدباغ، بحسب ما كتبه عنه الشيخ الفقيه أحمد بن المبارك، في كتابه: "الإبريز في كلام سيدي عبد العزيز"، وسوف أختصر في هذا المقال ما دار حوله كلامه رضي الله عنه، والذي يُعد عمدة ما ينقال في هذا الموضوع، وقد أشار إلى أن للسريانية خاصية في حمل المعاني لا تبلغها لغةٌ إلا لغة القرآن؛ إذ جمعت المعاني المودعة في الأرواح وترجمتها بألفاظٍ عربيةٍ مبينة، ولا يدرك إعجاز القرآن حقًّا إلا نبيٌّ أو وليٌّ، أما من دون هؤلاء من العلماء فإنما ينظرون إلى إعجاز القرآن في بلاغ المعاني، لا العلوم والأسرار، فإن ذلك فَلَك الأولياء العارفين.


ومن عَلِم السريانية، وجد أن جميع اللغات فيها إطناب إذا ما قورنت بها، إذ تتركب جميع اللغات من كلماتٍ تواطأ أهل اللغة الواحدة على معانيها، أمَّا السريانية فمبناها على الحروف لا الكلمات، ولكلِّ معنى حرفٌ وُضِعَ للدلالةِ عليه، لذا تحصُل فائدةُ الكلامِ فيها بالحرفين أو الثلاثة أحرف، وقد تطوي الكلمات القليلة في السريانية من المعاني ما لا يسعه كِتابٌ بِلُغةٍ أُخرى مِن لغاتِ الكلام، ومَن عرف أصل وضع الحروف هانت عليه معرفة هذه اللغة إذا انتبه إلى دقائق نوردها في هذا المقال.


فالسريانية لغةٌ ساريةٌ في جميع اللغات؛ سريان الواحد في الأعداد، والماء في الأعواد، وقد يدُل الاسم في العربية على شخص المسمى فيقال فيه علمٌ على الذات المسماة، كاسم أحمد؛ فإنه يدُل على شخص مسماه، إلَّا أن له في السريانية معانٍ، فالهمزةُ موضوعةٌ لمعنى، والحاء الساكنةُ لمعنى، والميم المفتوحة لمعنى، والدال لمعنى، يدرك تلك المعاني من له إلمامٌ بأصل وضع الحروف كما سبقت الإشارة إليه، كما وُضِعَ لفظ "البارقليط" أو "الفارقليط" في العبرانية للدلالة على سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنه وإن كان لفظًا عبرانيًّا إلا أنه له في السريانية مجموع معاني حروفه، وكذلك اسم "مشفحٍ" فإنه بمعنى الحمد، ولفظ "مَنْحَمَنَّا" كذلك.


والسريانية أصل اللغات، واللغات طارئةٌ عليها، وسبب حدوث اللغات الكثيرة إنما هو الجهل الذي عَمَّ البشر، وذلك لأنَّ مبنى وضع السريانية، ومبدأ التخاطب بها المعرفة الصافية التي لا جهل فيها، حتى تكون المعاني التي يتكلم بها أهل ذلك الصفاء معلومة لديهم قبل التكلم بها، فتكفي من المتكلم الإشارة إلى المعاني لإحضارها في ذهن السامع، فاتفقوا على الإشارة إلى المعاني بالحروف لعلمهم بحقائقها، وشهودهم أرواحها، وعدم احتجاب ذلك عنهم بصور الحروف في السمع، وليس ذلك لأجل الاختصار فحسب، بل لقصدهم الخوض في المعاني لا فيما يدل عليها من الكلام، ولو تمكنوا من إحضار المعاني المقصودة لهم بغير لفظ الحروف ما لفظوها أصلًا، ولكن لا يقدر على التكلم بالحروف إلا أهل الكشف الكبير، ومن هم في رتبتهم من الأرواح الدرَّاكة، والملائكة المجبولين على المعرفة والشهود.


ولمَّا كثُر الخلق، وزادت الحاجات، وتنازع الناس عليها حتى تخللت الظُّلمة الذوات، غفَل الناس عن معاني الحروف، فانعجمت عليهم فسموها حروف المعجم، وقد ضاع بذلك عِلْمُ كثيرٌ، واحتاج الناس إلى شرح المعاني وتركيب الكلمات التي تحملها إلى أذهانهم. فإن الذوات إذا دخلت عليها الظلمات لا تطيق المعاني الخالصة، ولذا كان في عدم معرفة سائر الناس للسريانية رحمة لهم.


ومفتاح ذلك العلم، أن يعلم المريد الطالب أن أصول المعاني مودعة في سر العالِم بها، وأنَّ لها صورًا روحانية يحملها النَّفس، ويدور بها على أفلاك الحروف في آلة النُطق، من باطن تجويف الصدر؛ محل الهاء، إلى ظاهر الشفتين، محل الواو، ثم تحدث لها صوَرٌ في الهواء تمسكها الآذان، ثم ترجع صورًا روحانية تدور في فَلك السمع إلى الخيال والفكر والقلب إذا كان لقلب السامع حضورٌ.


فأمَّا لو حمل العارف معانيه على الحروف بقوته السريانية فلا يطيقها كل أحدٍ ما لم يبلغ من صفاء المعرفة ما تتسع ذاته به لدوران أرواح المعاني في أفلاك تلقيه، فاحتاج الناس بسبب عموم الظلمة إلى تركيب الكلمات والجُمَلٍ لتحمل بينهم المعاني التي لا تطيقها ذواتهم  لضعف أكثر الذوات عن حمل المعاني المجردة، واحتجاب القلب الذي هو محل حصول كليات المعارف والعلوم، وصاحب عيني الشهود بالبصيرة واليقين الموعود بهما المتقين، وقد كان الإمام علي بن أبي طالب ينام على التراب حينًا، ويضرب بيديه على صدره وهو يقول: أين صدور الرجال! يطلب بذلك من يحمل عنه العلوم والمعارف التي لا يحتملها الكلام، ويقول أيضًا مشيرًا إلى صدره: إنَّ ههنا لعلوم جمَّة، لو وجدتُ لها حَمَلة. 


وقد ضرَب سيدي عبد العزيز الدبَّاغ مَثلًا لسريان اللغة السريانية في اللغات، فأوضح أن أصل كل كلمة إنما هو حرفٌ واحدٌ يدل على المعنى المعين، كما نجد في لغة العرب لفظ "حائط"، فهو موضوع فيها للدلالة على السور المحيط، وأصله السرياني "حا" وتعني الإحاطة والشمول، والهمزة والطاء زائدان في العربية لأسرارٍ يدركها العارف بأصل وضع الحروف، كما سبقت الإشارة إليه، ولذا نجد الولي المفتوح عليه يعرف معنى الكلام بأي لغةٍ كان؛ لثبوت حرفٍ أو أكثر، من حروف المعاني السريانية في كل لغة، وأنَّ ذلك الحرف هو الأصل للدلالة على المعنى المعين في أصل وضعه، وأنَّ ما زاد في الكلمة من الحروف في اللغة المعينة، لا يحجب عن العارف المعنى الأصلي، ولا يعرف ذلك غير الولي الذي رزقه الله العلم الذي يميز به بين الأصلي والزائد، وبين الصالح والفاسد، كما يميز به بين الحق والباطل، وهو العلم الذي هو نتاج التقوى، ويسمى عند القوم علم الفرقان، لقوله تعالى:  (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)[الأنفال٢٩].


وقد تكلم سيدنا آدم عليه السلام بالسريانية لأنها لغة الأرواح في الجنة، وتكلم بها بنوه إلى عهد نبي الله إدريس عليه السلام، ثم دخَلَ التبديل والتغيير في اللغة، ونقلها الناس عن أصلها، فأوَّل لغةٍ استنبطت منها، لغة أهل الهند، فهي أقرب اللغات للسريانية، وما تكلم آدم عليه السلام بالسريانية إلا لكونه نشأ عليها، وإلا فهو يعرف بالضرورة جميع اللغات، وقد علَّمه الحق تعالى الأسماء كلها، وكذا كل نبيٍّ يعلم جميع اللغات، وكذلك الأقطاب العارفون، فإنهم يعلمون من الحق تعالى كل ما يحتاج إليه أهل زمانهم، ولهم أن يظهروا بذلك، ولهم أن يكتمونه.


وليست معرفة السريانية مما يحصله الناس بالمذاكرة، وإن كان لكل علمٍ مبادئ وأصول يعلمها أهل ذلك العلم، وربما يقف المتعلم الباحث على بعض ما قيَّده العارفون من علوم الأسرار والأذواق، فيستفيد الطالب منها ما يفتح له أبواب معرفة ذلك العلم متي استعمل نفسه في الأمور الموصلة إليه من العبادات، والمجاهدات، والرياضات.


وقد تكلمت في هذا المقال كلامًا بسيطا يدفع عن الطالب علة الإنكار على من تكلم في هذه المسألة، سائلا الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهل القبول، وأن يُقبل علينا بما شاء من رحمته وعلمه، وأن يصلي على سيدنا محمدٍ وآله والتابعين إلى يوم الدين.

شارك:

اترك تعليقا

يرجى ملاحظة أنه يجب الموافقة على التعليقات قبل نشرها