تخفيضات الصيف - خصم %20 على جميع الكتب. شحن مجاني في دولة الإمارات العربية المتحدة

رسالة في الدائرة

رسالة في الدائرة

  • 13 July, 2024
  • الشيخ أيمن حمدي الأكبري

سلامٌ مِن اللهِ السلام على أخي

وإخوانهِ أهل المحبّةِ والنُهى

ومِنّى سلامٌ والتحياتُ والمُنى

عسى روحهُ ترقى إلى فوق السُها

الحمدُ للهِ الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقَهُ ثُم هدى، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّ الهدى سيِدِنا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ نجوم الاقتدا

ُوبعد

فقد سألني بعضُ الإخوةِ الكرامِ، لمَّا نظرَ إلى الدائرةِ التي وضعها الفقيرُ وأسماها "دائرة الشيخ الأكبر" رضي الله عنه أن أكتب له نبذةً فيما تحويه، وأَيَّدَهُ في السؤالِ بعضُ مَن أحسنَ الظنَّ بي، فحِرْتُ في سؤالِ الكرام وهُم أهلُ الإجابةِ والعطاءِ، لمَّا لم أجدْ من الوقتِ صفاء، حتى حبَسَتني حيرتي زمانًا عن الإجابة طلبًا للإصابة، وأنتم كما أنتم نُصبَ عيني وفي صدري، وأنا كما أنا أشكو إلى اللهِ جهلي وفقري، متوجهًا إليه بأنفاسِ شيخي وقدوتي، وهذه بضاعتي، حتى مَنَّ اللهُ عليَّ بهذه الرسالة، ولا زلتُ على تلك الحالة، أسأل المولى أن يرزقَ مَنْ نظرَ فيها ـ بعين الإنصاف ـ الفهمَ عنهُ، وأقولُ بإمدادِهِ وعونِهِ وحولِه وقوّتِه:

قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖإِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ‎ [الأنعام: ٩٠]

 وقد وضعتُها بغرضِ التمثيلِ والتقريبِ لبعضِ ما قاله الشيخُ الأكبرُ في الوجودِ من حيثُ مراتبُه واستنادُه إلى الحقِّ تعالى من حيثُ أسماؤه، والإشارةُ إلى بعضِ ما ينتجُ للناظرِ في مراتبِ الوجودِ مِن المعارف، وإن احتاج الناظرُ فيها إلى بعضِ البَسطِ فأقول:

اعلم أنّ العِلمَ القديمَ اقتضى علمهُ تعالى بجميعِ المعلوماتِ جملةً وتفصيلا حال عدمِها النسبيِّ، أي عدمَها المقيّدَ بخفاءِ صوَرها، إذ العدمُ المحضُ مُحالٌ لأنّه الشرُّ المحض، فالعدمُ نسبةٌ عدمية، أعني غيرَ وجودية، والأصلُ الوجودُ المحض، وجودُ الحقِّ تعالى.

ورؤيةُ الحقِّ للمعلوماتِ غيرُ مُقيَّدةٍ بوجودها الصوريّ؛ وشاهدُ ذلك ما يراه النائمُ مِن الأمورِ الحادثاتِ قبل حدوثِها، وكذلك ما يُحضرُه أربابُ الصناعاتِ والاختراعاتِ في أذهانِهم مِن الصوَرِ المرادِ إحداثُها بالقوّةِ قبل حدوثِها بالفعل، وللهِ المَثلُ الأعلى؛ فمَن عَلِم ذلك أدرك أنَ كلَّ معلومٍ للحقِّ فهو مشهودٌ له غائبٌ عن شهودِ ذاتِه لاستهلاكهِ في الحقِّ تعالى.
وبعد.. فلمّا شاء الحقُّ إيجاد العالَمِ أفاضَ نورَهُ على المعلوماتِ مِن حيثُ أعيانُها الثابتةُ في عِلمِ اللهِ القديم، فأبصرت أنفُسَها وغابت عن نورِ الوجودِ لأن النورَ لا يُرى بل يُرى به، فلمَّا أبصرت بذلك النورِ لم ترَ إلّا أنفسَها، فاستفادت بشهودِها وجودًا لم يكن عندها، أو قُلْ: شعورًا لم تكن تجده مِن قبل، وقد حكمَ سبحانه وتعالى عليها بالثبوتِ والبَهتِ في حضرةِ أحديَّتِه، والتغيّرِ والشعورِ في حضرةِ الكثرةِ التي هي أسماؤه.

ولمّا كان الفيضُ النوريُّ الدائمُ لا ينقطعُ كان شعورُها بأنفسِها دائمًا لا ينقطع، والأعيانُ لا زالت في عِلمِ اللهِ لم تبرح، فهي في عَماءٍ مِن حيثُ نظرُها لأحديَّتِه، وفي نورٍ وظهورٍ مِن حيثُ نظرُها لأسمائه المعبَّرِ عنها بالكثرةِ كما أوضحنا، ولا حُكمَ ولا أثرَ لهذه الكثرةِ في حضرةِ الذَّاتِ الأحديَّةِ، بل ظهورُ أحكامِ وآثارِ الكثرةِ الأسمائيةِ كائنٌ في المعلوماتِ، ومَن أدركَ هذا أدركَ ظهورَ العالَمِ من هذا الوجه؛ أعني أنَّ صدورَ العالَمِ عبارةٌ عن ظهورِ أحكامِ وآثارِ الأسماءِ الإلهيةِ في المعلوماتِ المحكومِ عليها بالكثرةِ في حضرةِ الأسماء؛ وهذا عينُ قبولِها الأنوارَ الإلهيةَ الأسمائية، وعَلِم أنَّ العالَمَ هو الناظرُ إلى الكنزِ الذى كان مخفيًّا كما قال تعالى في الحديثِ القُدسي، وأنّه عينُ جواهرِ الكنزِ لبروزِه مِن الخفاءِ إلى الظهورِ بذلك النور، وإن شئتَ قُلتَ مِن العدمِ إلى الوجودِ الذى هو الحقُّ وهو عينُ الكنز، وقد نبَّه تعالى إلى ما ذكرنا، كما أشرنا.

ومتى بانَ هذا فاعلموا أنَّ جميعَ المعلوماتِ لم ترَ أعيانَها إلَّا في مرآةِ الحقِّ إذْ لا غيرَ، وهي حضرةُ تجلِّيهِ الدائمِ وإنْ غابتْ أكثرُ الأعيانِ عن إدراكِ التجلِّي كما غابتْ عن إدراكِها لنورِ الوجودِ الفائضِ، كما ذكرنا، لاستهلاكِها في رؤيةِ أعيانِها وانشغالِها بأنفسِها وأمثالِها المُسمَّاةِ أغيارًا، لكونِها صورًا يطرأ عليها التغيير، أو لكونِها غيرَ الحقَّ من هذا الوجه، وهي حقٌّ بوجه، أعنى هي عينُ الحقِّ مِن حيثُ أحديَّتُها حالَ استهلاكِها، وهي غيرُه من حيثُ كثرتُها المسماةُ خَلقًا وعالَمًا، فالوجودُ حق، والعالَمُ حقٌّ في خلق.

ثُمّ إنَّ الحقَّ تعالى أوَّل ما أفاضَ نورَه على الأعيانِ العلميةِ الثابتة؛ أفاضَه على أوَّل مُبدَع، وهو العقلُ الأوّلُ، عقلُ العالَمِ وهو القلمُ والروحُ وله أسماءٌ أخرى بحَسَبِ مراتبِه، وكان ذلك بنظرِ اسمه "البديع"


فأوّلُ مَن شاهدَ نفسَهُ كان العقل الأوَّل وهو القلمُ كما ذَكرنا، رأى نفسَه في مرآةِ الحقِّ وهو مرآةُ الحق، ومِن أسمائه حقيقةُ الحقائق، والحقُّ المخلوقُ به، إلى آخر أسمائه المعلومةِ بحَسَبِ اصطلاحِ القوم.

فلمّا شاهدَ نفسَه كان عينَ الحجابِ على نفسِه لكونِه لم يرَ غيرَ نفسِه في تلك الحضرةِ وإن عَلِمَ ما عَلِم باستمدادِهِ مِن الحقِّ لمَّا قال له كما أنبأنا ﷺ

اكْتُبْ، قال: وما أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ وأنا أملي عليكَ

وكذا أجابَ ﷺ لمّا سُئل عن رؤيتِه للهِ تعالى في المعراجِ فقال

نورٌ أنَّى أراه؟

لذا قلنا في العقلِ: فما رأى إلَّا نفسه في تلك الحضرة.

ثُمّ إنّ القلمَ سأل سؤالًا حالَيًّا وهو: فيمَ أكتبُ؟ فانبعث له لوحُ العالَمِ لمَّا أجابه الحقُّ بإفاضةِ نورِه باسمِه "الباعث" على النَّفسِ وهى اللوحُ مِن وراءِ حجابِ العقل، وكانت في ظُلمةِ العَماء، فشاهدت نفسَها بالنورِ المُفاضِ في مرآةِ العقل، فهي لا زالت تستمدُّ مِن الحقِّ تعالى بطريقِ الإلهام: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا» الشمس: ٨ وهو ظهورُها، «وَتَقْوَاهَا» الشمس: ٨ وهو خفاها، وهذا ما يُسمى الوجهُ الخاصُ في الاستمداد، كما تستمدُّ مِن العقلِ بوجهٍ آخر لرؤيتِها نفسَها في مرآتِه وهو الكاتبُ في لَوحِها، وهي محجوبةٌ عنه حجابُ الناظرِ إلى صورتِه في المرآةِ عن المرآة، وهى محجوبةٌ عن الحقِّ بالعقلِ الذى هو مَجْلى الحقِّ بالنسبةِ إلى النَّفس، فمتى أدركتِ النّفسُ العقلَ فقد أدركتِ الحقَّ فافهمْ وانظرْ إلى تعدُّدِ الحُجُبِ بحَسَبِ مراتبِ الموجوداتِ، و اعلمْ أنَّ النّفسَ الكليَّةَ إنَّما هي نفسُ العالَم، والنفوسُ الجزئيةُ صورُها في عالَمِ الصوَرِ، وجميعُها مستفيدةٌ مِن النَّفسِ الكليَّة، ولا أقولُ اعلمْ أو افهمْ لأخوتي إلّا تنبيهًا إلى ما يترتبُ على ما أشيرُ إليه حالُ جمعِهم، لا أنى أظنُّ أنّ ما أقول غيرَ معلومٍ لهم، كما قيل شعرًا:

حالي وحالُك في الروايةِ واحدُ

ما القصدُ إلَّا العلمُ واستعمالُهُ.

ثم إنَّه تعالى أفاضَ نورَه على عينِ الطبيعةِ مِن وراءِ حجابِ النَّفسِ، كما سبق أن أفاضَ نورَه على النَّفس مِن وراءِ حجابِ العقلِ سُنَّة اللهِ، ولن تجدَ لسُنَّةِ اللهِ تبديلًا فظهرتِ الطبيعةُ في مرآةِ النَّفسِ، وإنْ شئتَ قُل بَطَنَتْ، فما أفاضَ عليها نورَ وجودِها إلا بنظرِ اسمِه "الباطن"، أعنى شاهدتْ صورتَها في مرآةِ النَّفسِ وغابتْ عن مشاهدَةِ النَّفسِ، كما غابت النَّفس عن انطباعِ صورةِ الطبيعةِ في مرآتِها.

وكُلُّ روحٍ مِن هذه الأرواحِ الملكيَّةِ لا يرى إلَّا نفسَه وإنْ شَعَرَ بغيرِهِ بعضَ الشعور، فيرى لنفسِه التقدُّمَ في المرتبةِ والوجودِ عن غيرِهِ، كما أنَّ شعورَ الشخصِ بنفسِه سابقٌ لشعورِه بما يقابلُهُ مِن العالَمِ وإن وُجِدَ قبلَهُ، ومِن ها هُنا قالتِ الملائكةُ

قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا | البقرة: ٣٠

ورأت في أنفسِها التقدُّمَ على خليفةِ اللهِ في الأرضِ ولِما عَلمت ممَّا عَلمت عن أصلِ نشأتِه الجسمانيةِ القابلةِ للفسادِ والحاويةِ للأضداد، مع غيابِهم عن مشاهدةِ حقيقتِه الجمعيَّةِ وعينِه الثابتةِ في عِلمِ الله، لذا قال تعالى:

إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏| البقرة: ٣٠ – ٣١ | وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا

فاستفادتْ صورةُ آدمَ عليه السلامُ عِلمًا لم يكن عندها من حيثُ صورتُه الطينيّة، وإن كان مركوزًا في حقيقتِه وعينِه الثابتةِ في عِلمِ اللهِ، وهي عينُ جمعيَّتِه فاعلموها.

ثم مِن وراء حجاب الطبيعة أفاض نورَه تعالى على الهباء ثم على جسم العالم، ثم شكله ثم فصَّلَ سبحانه تلك الآيات تفصيلا، فلا نطيل لوضوحه مِن المثل السابق وبالنظر إلى الدائرة يزداد وضوحا، والأمر كذلك وما ثَمَّ إلَّا تجلِّيهِ تعالى، وهو عينُ التنزُّلِ في المراتبِ المذكورةِ والتاليةِ إلى مرتبةِ الإنسانِ الكاملِ الذي هو آخرُ التنزلات وأظهر التجليات، وهو الخليفة، وقد نصَّ عليه تعالى في حقِّ والدِنا فقال:

إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةۖ |  البقرة: ٣٠ | يعنى آدمَ عليه السلام.

ثُمّ إنّ سلالتَه خرجت على صورتِه غيرَ أنَّها لبِست ملابسَ حَجَبتها عن مشاهدَةِ حقائقِها، فمَن أراد منا معرفةَ الحقِّ خلع ما لبسَ وتجرَّد عن جميعِ الأخلاقِ المذمومةِ والصفاتِ والأفعالِ حتى يشهدَ عينَه في مرآةِ الحقِّ فيعرف نفسَه، ومن عَرف نفسَه عَرف ربَّه، و قد بان ممّا ذَكرنا أنّ كلَّ مَن حُجب فقد حُجب بنفسِه، ومتى غاب عنها ظهر له المَجْلى الذى رأى نفسَه فيه، ومتى استغرق في مشاهدَةِ المَجْلى صار هوَ هو، فارتقى، فإن غاب عنه رَقى مِن حيثُ نزل إلى أن يتجرَّدَ إلى مرتبةِ العقلِ الأوّلِ فيأخذ مِن الروحِ النوني، وهو عينُ المِداد وحقيقةُ الإمداد، ووراء ذلك ما لا يقال، فأوقفنا الحقُّ تعالى على سرِّ الروحِ النوني في قولِه:

فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا | التحريم: ١٢

والأمرُ كما قال الشيخُ الأكبرُ دَورِيٌ، ولا يكون ما رتبناه إلّا بالتخلصِ مِن الأثقالِ العنصريةِ والطبيعيةِ، أعنى بالعنصريةِ الترابَ ثُمّ الماءَ ثُمّ الهواءَ ثُمّ النار، وبالطبيعيةِ ما عُلِم، فيصيرُ السالكُ روحًا فيُعرَجُ به معراجًا روحانيًا:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا | الزمر: ٤٢

إلى سماءِ الأسماءِ حيثُ تتلقاه الروحُ الآدمية

فإنْ رفعَ اللهُ له الحجابَ الحائلَ بينه وبين الحقيقةِ الآدمية، عَلِم مِن عِلمِ الأسماءِ على قَدرِ سِعتِه كما أشرنا، واطّلع على ما أودع اللهُ في السماءِ الأولى مِن الأمرِ الموحى به فيها

وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ | فصلت: ١٢ | وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ | الذاريات: ٢٢

فإن كان مِمّن يطلبُ الحقَّ تعالى لم يقف مع ما كُشف له فارتقى إلى السماءِ الثانية، وهى سماءُ الروحِ وفيها روحانيةُ عيسى عليه السلامُ رفعه اللهُ إليه، كما أخبر ﷺ أنه قابل عيسى عليه السلام في السماءِ الثانية، وقد فَصَّلَ هذا المعراج الشيخ الأكبر رضى الله عنه وعنّا به، وليس الغرضُ مِن هذه الرسالةِ إيضاحَ الأمرِ على التفصيل، إذ لكلِّ شخصٍ معراجٌ خاص، وسبحان من لا يتجلى بصورةٍ مرَّتين ولا بصورةٍ واحدةٍ لشخصين، وإنَّما غرضُنا أن نشيرَ إلى بعضِ ما ظهر في الدائرةِ من أسرارِ الترقيات، وما يجده السالكُ إذا فارق الخلَّان وغادر الأوطان طلبًا لحضرةِ الرحمن، ولا يكون ذلك إلا بما ذَكره الشيخُ الأكبرُ وأبسطه وهو: طلبُ العِلم، ثم العملُ بما عُلم، ثُمَ الورعُ فيما يعمل، ثُمَ الزُّهدُ فيما كسب مِن عملِه، ثُمّ التوكُّلُ على اللهِ فيما يأتي حتى تتوالى الكراماتُ والمقاماتُ بمنِّه وفضله.

فأنفعُ العِلمِ ما يطهِّرُ صاحبَه من كلِّ رجسٍ ماديٍّ ومعنوي، وأفضلُ عملٍ ما يترتبُ على ذلك العِلمِ الشرعيِّ الحِكميِّ مِن العبادات، وتهذيبِ الأخلاقِ بالرياضاتِ والمجاهدات، وهذا المعراجُ موقوفٌ على العملِ بالشرعِ المنزَّل، وغايةُ المتريّضِ على غيرِ ما شرّعَ اللهُ التلقي من روحانياتِ الكواكبِ والأفلاك، والوقوفِ على أحداثِ الزمان، كما ذكر الشيخُ الأكبر.

أمّا المُقلِّدُ لشرعِ الأنبياء، فلا مطلبَ له إلَّا الحق، فتتلقاه الملائكةُ، وأرواحُ الأنبياء، وتوصله إلى حضرةِ الحقِّ فهو الآخذُ عن الحقِّ بواسطةٍ وبلا واسطة، ولا بُدَّ مِن الطريقين لكلِّ سالك، والكلُّ سالكٌ،

مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا | هود: ٥٦ | والكلُّ دابٌّ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ | هود: ٥٦

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

ومثالُ الطريقينِ في الأخذِ ما سبق وأشرنا إليه مِن تلقى النَّفسِ الكليةِ، التي هي لَوحُ العالم، عن العقلِ الأوَّلِ الذي هو القلم، فهذا هو الطريقُ العام، والطريقُ الخاصُّ طريقُ الإلهام «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‎﴿٨﴾» [الشمس: ٨]، وهو الوحيُ العام عند بعضِهم «وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا» [فصلت: ١٢] .

وحكمةُ ذلك في المَثلِ المذكورِ أنْ يعلمَ العقلُ أنَّه لا يستقلُّ بالعلم، إذ يجد ما هو مكتوبٌ في لَوحِ النفسِ مِن غيرِ إفادتِه، فيعلم فقرَه إلى اللهِ تعالى، وأنّه لا يستقلُّ بحُكمٍ على النَّفسِ ويعلمُ أنَّ الأمرَ شورى، كما وافق القرآنُ عمرَ بن الخطاب رضى اللهُ عنه في مواضعَ مشهورة.

ومتى عَلِمَ المقلِّدُ ما ذكرنا؛ نظر إلى مراتبِ الوجود، وطلبَ العروجَ عليها، فقيل له حتى تؤدي الأمانات إلى أهلِها، فاستهلك نفسَه في الذِكرِ عاملًا بما عَلِمَ، فرقى مِن مرتبتِه مِن غير مفارقةٍ إلى سابقتِها مِن المراتب، ومن نظر إلى الدائرةِ عَلِمَ معنى قولِ الشيخِ: فأوَّلُ ما يُكشف له عن عالَمِ الحِس؛ يعنى الحسَّ الحيواني؛ ثُمَّ المغيباتِ من الأرواحِ الناريةِ والنورية، ثُمّ عالَمِ النبات، ثُمّ المعادن، فهذا طريقُ الرجوع، ثُمَّ إنَّ هذا السالكَ يتجرَّدُ عن شعورِه بترابيَّتِه وهو متوكلٌ على اللهِ الذي يُدبِّرُ الأمرَ يُفصِّلُ الآيات، وهكذا فمَنْ نظر إلى الدائرةِ التي هي عبارةٌ عن مِفتاحِ نَضَدِ العالَمِ وجد فيها من العلومِ والأسرارِ ما لا تسعه العبارة ويدقُّ عن الإشارةِ، نسألُ اللهَ أن يرزقنا الوقوفَ عليها ويُعلِمَنا ما شاء مما أُودع فيها، والعملَ بما قدَّر لنا، و لا يكونُ ذلك إلَّا بطهارةِ البدنِ، كما ذكرنا، ووراء ذلك سرٌّ أنبّهُ عليه، وما كنتُ أفعلُ لولا أني وجدتُ بعضَ أشياخِنا قد أشاروا إليه، ولا زال الشارعُ ينبِّه على ما يؤدي إليه من طهارةِ الظاهرِ والباطنِ، فأقول:

اعلموا نفعنا اللهُ بمحبَّتِكم أنَّ للروحِ تعشُّقًا بالبدنِ لا يوصفُ ولا يضاهيه تعشُّق، وذلك أنَّها مستهلكةٌ في ذَوقِ ما تجده مِن اللذاتِ بطريقِ البدن، وهى محجوبةٌ به عن إدراكِ نفسِها وتَذكُّرِ ماضيها واستشرافِ مستقبلِها، حتى إذا تمكَّنَ الفسادُ مِن البدنِ وحدث الموتُ، حُشرت الروحُ وهي لا تدركُ نفسَها إلَّا بصورةِ البدنِ وبحَسَبِ ما استفادته من العلومِ والمعارفِ والأذواقِ بطريقِهِ، فلا تزالُ محبوسةً في هذه الصورةِ في برزخِها، وهذا عامٌّ في البشر، إلَّا أرواحُ الرسلِ والأنبياءِ والصدِّيقين والشهداء، فإنَّها راضت أنفُسَها وأبدانَها بالمجاهدات والرياضات، وغادرت أرضَها إلى مَحالِ خروجِها وعروجِها بالعبادات، فتحرَّرت من قيودِ الجسمانيةِ كما أمرها ﷺ بقوله: (موتوا قبل أن تموتوا) فوجدت لذّةَ المشاهدات، وسرحت في رياضِ السُبحات، بأصنافِ العبادات، فعلِمت أسرارَ الاستحالات، ورأت أنفُسَها في جميعِ الحضرات بالصورِ المختلفاتِ، فلم تحكمْ عليها صورةٌ دون صورة، فإذا جاء أجَلُها لبست من الصورِ ما شاء اللهُ ممَّا أعطاها سلفًا في معارجِها من الصورِ الملكيَّةِ المناسبةِ لأسفارِها ومعارجِها، وهو الذى لا يسلبُ ما أعطى، فهُم مِن حيثُ أرواحُهم الطاهرة، كما قال تعالى: «لهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ‎﴿٣٥﴾‏» [ق: ٣٥] فصارت أرواحُهم مطلقةً في البرزخ، والبرزخُ لا لابد بينَ عالمينِ بذاتِه فهو في العالمين؛ فَعُوا.

فظهرت لهم من أسرارِ التصريفِ ما يُبهر العقول، لمعرفتِها وذوقِها في العروجِ والنزول، وهذا ما يجده الصادقُ مِن العطاءِ عند آلِ بيتِ الرسولِ صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين، وسبحان الله وما أنا مِن المشركين.


فخُذ عن الحقِّ مِنِّى

وغُضَّ طرفك عنِّي

وجُد بجدِّك يوما

وخلِّ عنك التمني

ما الأمرُ إلا اصطباري

وليتَ حسَّنتُ ظنِّي

جزاك ما كنتَ ترجو

لذاك أبرزتُ فنِّي

والسلام عليكم وعلى أحبتكم

والختام لنا ولكم بالحسنى إن شاء الله.

شارك:

2 تعليقات

محمد

July 23, 2024

الله اكبر الله اكبر ما شاء الله تبارك الله
جزاكم الله خيرا ورضي الله عنكم وارضاكم سيدنا ورفع قدركم وزادكم من فضله العظيم اللهم آمين يارب العالمين 💐

محمد

July 23, 2024

جزاكم الله خيرا سيدنا ورفع قدركم وزادكم من فضله العظيم اللهم آمين يارب العالمين 💐

اترك تعليقا

يرجى ملاحظة أنه يجب الموافقة على التعليقات قبل نشرها