ابن العربي بين الجذب والسلوك

ابن العربي بين الجذب والسلوك

  • 26 June, 2024
  • الشيخ أيمن حمدي الأكبري

يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي:

ولقد دخلت يوماً بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي، فكان يُظهر التعجّب مما سمع فبعثني والدي إليه في حاجةٍ قصداً منه حتى يجتمع بي فإنه كان من أصدقائه وأنا صبيّ ما بقل وجهي ولا طرّ شاربي. فعندما دخلت عليه قام من مكانه إليّ محبةً وإعظاماً؛ فعانقني وقال لي: نعم! قلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا! فانقبض وتغيّر لونه وشكّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم ... لا، وبين نعم ولا؛ تطير الأرواح من موادّها والأعناق من أجسادها. فاصفرّ لونه وأخذه الأفكل وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه

ويبدو أن اللقاء يحتاج إلى إعادة النظر لاستكشاف أهم مراحل تطور حياة ابن العربي الروحية، حيث لم تحتفظ لنا مؤلفاته التي وصلت إلينا بتاريخ ذلك اللقاء، بالإضافة إلى استعماله بعض الألفاظ التي ينبغي إعادة التعرف عليها، كقوله:

وأنا صبي ما بقل وجهي ولا طر شاربي

ذلك الوصف الذي جعل بعض الباحثين يتوهم أن ذلك اللقاء كان وابن العربي في عامه الرابع عشر، أي حوالي عام 574 من الهجرة، والواقع أن ابن رشد قد ولي قضاء قرطبة عام 578 من الهجرة، كما أن مسألة بقل الوجه؛ أي ظهور اللحية قد تعني تمام نموها، وهو ما يتم غالبا بعد بلوغ الذكر عامه العشرين، وإن كانت بداية ظهور شعر خفيف قد تبدأ عند البلوغ، وكذلك فإن لفظ الصبي قد يصف الذَّكر من المهد إلى بلوغه سن الرشد.

إن الدعوة إلى إعادة النظر في هذا اللقاء تهدف إلى معرفة تاريخ الخلوة الأولى التي دخلها ابن العربي، والتي يرى بعض الباحثين أنها كانت وعمره لا يتجاوز خمسة عشر عاما، في حين يذكر ابن العربي نفسه أن بداية رجوعه إلى هذا الطريق كانت سنة 580 هـ، أي في عامه العشرون، وثّمَّ حكاية أوردها ابن الشعار في قلائد الجمان تشير إلى تلك البداية حيث قال:

وحدَّثني من لفظه، قال: كان سبب انتقالي من الجندية ونبذي لها وسلوكي هذه الطريقة، وميلي إليها، أني خرجتُ صحبة مخدومي الأمير أبي بكر يوسف بن عبد المؤمن بن علي بقرطبة، قاصدين المسجد الجامع، فنَظرْتُهُ في ركوعٍ وسجودٍ وخشوعٍ، كثير الابتهالِ إلى الله عزَّ وجلَّ، فخَطَرَ لي خاطِرٌ أنْ قُلتُ في نَفْسي: هذا مَلِكُ البلادِ خاضِعًا مُتذَللًا، يذَعُ هذا بينَ يدَي اللهِ تعالى عَزَّ وجَلَّ؛ فما الدُّنيا بشيءٍ، ففارقتُهُ مِنْ ذلك اليوم، وما عُدْتُ رأيتُهُ أبدًا، ثُمَّ لزمتُ هذه الطريقة.

يبدو إذًا أن أخر عهده بالجندية كان في ذات العام الذي ذَكَر في غير موضعٍ من الفتوحات المكية أنه عام لزومه الطريقة، ولكن ذلك لا يعطينا اليقين بأنه انقطع لها، بل ربما يكون قد ترك الجندية فحسب، وأن عدم رؤيته للملِك كان لمفارقته لخدمته قبيل وفاته التي كانت في سنة 580 هـ أيضًا. حيث يقرر في أكثر من موضع أن الصلة بينه وبين أمير المؤمنين يعقوب بن يوسف؛ الذي ولي الحكم بعد أبيه لم تنقطع بعد.

غير أن هذا الحدث أثر في ابن العربي، ودفعه لطلب الحق تعالى بالخلوة، ولعله أشار إلى طريق الجذب في فتوحاته المكية حين قال:

ونلت هذه المقامات في دخولي هذه المقامات سنة ثمانين وخمسمائة، في مُدَّةٍ يسيرة

، ولا يكون هذا إلا جذبًا، ويبدو أن ما طرأ عليه في تلك الخلوة الأولى هو ما دفع والده أن يرسله إلى القاضي الطبيب ابن رشد، إذ رأى أبوه مِن وجهٍ، أنه يتكلم بكلامٍ لم يعهده منه، ومن وجهٍ أخر فإن تركه الجندية لم يكن بالأمر الذي يُترك دون نظرٍ من جهة أبٍ شفيق على ابنه، وكلاهما يخدم مع مَلِك البلاد، فذلك أمرٌ يحتاج إلى مراجعات من أولياء الأمر، والذي يُرجح لدَيَّ أن ابن العربي لم ينقطع إلى الله بالكلية في هذه السنة، ما حكاه عن نفسه في رسالة روح القدس بعد مقابلته لأول شيوخه في طريق الصوفية؛ وهو أبو العباس العريبي، الذي زار قرطبة ومكث فيه عدة شهور في نفس ذلك العام، ذلك الحدث الذي حكاه مرةً أخرة في الفتوحات، وخلاصته أنه حمل في يده سمكًا مملحًا له رائحة يأنف أرباب المناصب من أن يراهم الناس حاملين مثل هذه المأكولات، وقد رآه بعض أصحاب الشيخ فقالوا له: ما قصَّر ابن العربي في إذلال نفسه، فقد رأيناه في السوق يحمل كذا، فقال الشيخ لهم: حتى نعرف نيته؛ وقد كان جواب ابن العربي لما سأله الشيخ وحكى له كلام أصحابه، أنه لم يحمله إذلالا لنفسه، بل أنه رأى أن الله الذي خلق العرش بقدرته خلق هذا المخلوق، فكيف يستقذره أو يحقره وهو من خلق الله.

ويتضح من هذه الحكاية أن ابن العربي في ذلك الحين كان لا يزال من أرباب المناصب، وقد ذكر بعض من ترجم له أنه قد عملَ كاتبًا لأمير المؤمنين، وإن لم نجد في مؤلفاته التي وصلت إلينا ما يؤكد ذلك، كما أنه حمل ذلك الشيء ولم يستقذره لنظرٍ متعلق بالعلم بالله، لا لتهذيب نفسه، مما يشي بأنه لم يكن يطلب طريق الرياضة إلى ذلك الحين، ويؤكد ذلك ما حكاه ابن العربي عن جدال له مع شيخه العريبي حول شخصٍ قد كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد بشر به، وقد سماه العريبي، إلا أن ابن العربي كان قد عرف كشفا صاحب ذلك المقام فردَّ كلام شيخه، ويستطرد ابن العربي في هذه الحكاية مشيرا إلى أنه بعد خروجه من عند شيخه قابل رجلا وقع في قلبه أنه الخَضِر عليه السلام، ولامه على ما فعله مع شيخه، فرجه إليه معتذرا، فقال العريبي: أأحتاج معك إلى الخضر في كل مسألة!.

وقد عبَّر ابن العربي عن هذه الإشكالية التي يعانيها كل من سبقَ فتحُهُ رياضَتَه.

ولو تتبعنا علاقة ابن العربي بشيوخه في الأعوام القليلة التي تلت عام 580 هـ، سوف نجد أنه لم يخرج عن دنياه قبل مقابلة عدد غير قليل من الشيوخ، وربما كان ذلك بعد لقاءات برزخية بروح نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام، الذي أكد ابن العربي أنه تاب على يديه، ثم خرج عن ماله لأبيه الذي صحبه قبل موته بقليل في أول زيارة لشيخٍ من شيوخه في مرحلة السياحة؛ وهو عبد العزيز المهدوي الذي أهدى له موسوعته الكبرى الفتوحات المكية، وكان ذلك سنة 590 هـ.

وربما أفردنا مقالا أو أكثر عن سلوك ابن العربي، وحصوله في رتبة الشيوخ، إذ أن هذا المقال يعتني بالنظر إلى المرحلة الانتقالية بين الجذب والسلوك، فإن أهل طريق الله على أربعة أقسام: سالكٌ، وجذوبٌ، وسالكٌ تداركهُ الله بالجذب، ومجذوبٌ تداركه الله بالسلوك، فالسالك والمجذوب لا يصلحان لإرشاد الخلق، فإن السالك لا علم له بالأحوال التي يتقلب فيها أهل هذا الطريق، بل جُل نظره للأعمال وأحكامها، أما المجذوب فيغلب عليه التذاذه بأحواله، وقد لا يتصور أنها أحواله مع الله، بل قد يرى أن كل الخلق كمثله، أما الصنفين الأخيرين فقد اجتمع لهما معرفة الأعمال وأحكامها من وجه، وذوق نتائج الأعمال من الأحوال وثمراتها، وتلك رتبة الشيوخ في طريق الصوفية، ولا شك أن القدم الراسخ فيه للشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي رضي الله عنه، ورضي عنا بمحبته.

شارك:

3 تعليقات

Norhan Aly

August 01, 2024

مقال رائع للتعريف بالشيخ الأكبر رضي الله عنه وبدايات تعرفه على الطريق مما يعطي للسالك نظرة واضحة عنه

شهيرة حمزة

July 25, 2024

مقال رائع ومختصر ومفيد يقدم خصوصا نظرة جديدة ملفتة للانتباه ومقنعة لبدايات سيدي محيي الدين ابن العربي رضي اللّه عنه وأرضاه، جزاكم الله كل خير ورضي عنكم.

Mohamed Nasr

July 25, 2024

هكذا عناية الله بأهل الله، اللهم قربنا إليك قرب الصالحين

اترك تعليقا

يرجى ملاحظة أنه يجب الموافقة على التعليقات قبل نشرها