سلة التسوق الخاصة بك فارغة الآن.
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٤٣﴾ الأعراف
وبعد
فالطريقة الأكبرية الحاتمية طريقة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي رضي الله عنه، وقد بثَّ أصولها وقواعدها، وقرر آدابها وأذكارها في كتبه التي وصل إلينا منها ما قدَّر الله تعالى وصوله إلينا، كما حملها من أصحابه خاصتهم، فمنهم من أخذها عنه بطول صحبته كسيدي عبد الله بدر الحبشي، وسيدي القاضي الفقيه إسماعيل بن سودكين وغيرهما، ومنهم من نشأ عليها كولديه سيدي محمد سعد الدين، ومحمد عماد الدين، وربيبه سيدي الشيخ الكبير صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي.
وللطريقة شعائر ثلاث؛ التلقين، والمبايعة، وإلباس الخرقة، فأما التلقين والمبايعة فعبارة عن الإجازة في سلوك الطريقة المعينة، وأما إلباس الخرقة فعبارة عن الإذن في إرشاد الطلاب وتربية المريدين، وقد احتفظت لنا مؤلفات الشيخ الأكبر بوثائق تؤكد أنه ألبس عددًا غير قليل ممن صحبهم خرقة التصوف، وقد كتب ذلك نثرًا وشِعرا، كما ذكر أنه رضي الله عنه قد لبس الخرقة من طُرقٍ مختلفة، وذلك ثابت في كتابه المشهور "الفتوحات المكية"، وكذلك في رسالة "نسب الخرقة"، وإلباس الخرقة دليلٌ على الصحبةِ، وهي إشارة إلى لباس التقوى، وتشير أيضا إلى سريان حال الشيخ في المريد. وقد لبس الشيخ الأكبر خرقة الصوفية من أربعة طرق:
من يد يوسف بن يحيى بن أبي الحسين العباسي، وهو لبسها من يد سيدي القطب الغوث عبد القادر الجيلاني، وهو من أبي سعيد المبارك المخزومي، وهو من أبي الحسن علي بن محمد بن يوسف القرشي، من أبي بكر بن محمد بن خلف الشبلي، من الجنيد شيخ الطائفة ببغداد، من السري السقطي، من معروف الكرخي، من علي بن موسى، من موسى بن جعفر، من جعفر بن محمد، من محمد بن علي، من علي زين العابدين بن الحسين، ومن الحسين بن علي، من علي بن أبي طالب، من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لبسها الشيخ الأكبر من يد محمد بن قاسم بن عبد الرحمن التميمي، من عبد الرحمن بن علي بن ميمون، من محمد بن أحمد بن محمود، من علي بن محمد البصري، من أبي الفتح بن شيخ الشيوخ، من أبي إسماعيل بن شهريار، من حسن الهكاري، من عبد الله بن خفيف، من جعفر الحَذَّاء، من أبي عُمَر الإصطَخري، من أبي تُراب النخشبي، من شقيق البلخي، من إبراهيم بن أدهم، من موسى بن زيد الراعي، من أويس القَرَني، من علي بن أبي طالب، من سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
لبسها الشيخ الأكبر من الشيخ حسن بن علي بن جامع، وهو لبسها من الخَضِر عليه السلام.
لبسها الشيخ الأكبر من يد الخَضِر عليه السلام.
وقد وصفه المقري في كتابه "نفح الطيب" قائلا:
والغالب عليه طرق أهل الحقيقة، وله قدمٌ في الرياضة والمجاهدة، وكلامٌ على لسان أهل التصوف، ووصفه غير واحدٍ بالتقدم والمكانة من أهل هذا الشأن بالشام والحجاز، وله أصحابٌ وأتباع
.وقد حمل أتباعه طريقته إلى من بعدهم من الطالبين، كسائر الأتباع الأمناء، وإن ضنوا بها على عامة طالبي طريق التصوف لما يلزم المتأهل على هذه الطريقة السَنِيَّة من السعة العلمية، ولذا نجد أن سلاسل الطريقة الأكبرية مرصعة بأكابر العلماء، وأكثرهم ممن نشأ على طريقةٍ من الطرق المنتشرة في موطنه وزمانه، ومنهم من اجتمعت لهم طرقٌ عدة، كسيدي عبد الغني النابلسي، والمحدِّث العلامة مرتضى الزبيدي، وقطب زمانه سيدي أبو المحاسن القاوقجي، وسيدي أحمد بن إدريس، وسيدي أحمد الدجاني، وسيدي محمد بن علي السنوسي، والشيخ أحمد الأروادي، وضياء الدين الكمشخناوي، وغير هؤلاء من السادة الأمناء الذين حفظوا طريقة الشيخ الأكبر رضي الله عنه على الرغم مما تعرض له من الهجمات في بعض العصور التي طغى فيها المنكرون المتشددون ممن لم يصل إليهم من مؤلفاته النذر اليسير، فتسرعوا في إصدار الأحكام بحسب ما فهموا مما وقفوا عليه من مؤلفاته المشحونة بالحقائق التي اصطلح عليها أهل هذا الفن، فالتبست على من لم يسبر أغواره، وفوق كل ذي عِلمٍ عليم.
وممن حمل الطريقة الأكبرية ولقنها لبعض من طلبها منه، سيدي الشيخ العلامة عبد الغني النابلسي، وقد وقفت على رسالةٍ أرسلها رضي الله عنه إلى فقيه سيواس؛ السيد علي السيواسي ابن السيد عبد الله، وكان قد طلب الاسترشاد لسلوك طريق القوم، فأجابه بأن أهل هذا الطريق على طريقين أو اتجاهين رئيسين في السلوك، أولهما طريق الأسماء، والأخر طريق العلم بالله.
ويمكن إيجاز ما ورد في تلك الرسالة النفيسة بأن نقول: إن معراج الأسماء ممتنع إلا على أكابر الأولياء، وذلك لدقة شروطه، ولا يظن ظان أن المقصود بطريق الأسماء هو ذكر اسم معين، فهذا أمر شرعي لقوله تعالى
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ﴿110﴾ الإسراء
إنما طريق الأسماء اصطلاحاً عبارة عن رياضات خاصة، وأسماء معينة، وشروط عامة وخاصة، لا تتحقق إلا لأكابر الورثة، وهي كما أشار سيدي عبد الغني النابلسي طريق الأنبياء وورثتهم سوى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يقوى على الخلوة من لم يعتد العزلة، والصادقون من أهل طريق الاسماء هم أهل التجريد المنقطعون إلى الله، ولذا فإن ذلك الطريق لا يصلح للسالكين من المبتدئين والمتوسطين، وأهل المعايش واتخاذ الأسباب، وإن تلقى منه أهل البدايات ما يناسبهم في طريق التأهل للترقي عليه.
أما الطريق الآخر فقد سماه سيدي عبد الغني في هذه الرسالة طريق العلم بالله، ونسبه إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو المتفرد به بين سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وهو طريق سيدي محيي الدين، وجُل رياضاته في الجلوة، وإنما العزلة فيه للتصفية لا غير، والمشرب الأكبري مشربٌ علمي يتعرف فيه السالك على العالَم ويدرك مراتبه، كما يتعرف كل طالب على نفسه باعتباره عالَما صغيرا، كما أن العالم إنسانٌ كبير، ومن ثم يقابل مراتب العالَم وحقائقَهُ بلطائف شخصه ودقائقه، فيضاهي شخصَ العالَم بشخصه، ويوازن بينه وبينه من حيث الاشتراك في المعنى لا المبنى، حتى يتذوق الوحدة في ذاته، ويفنى عن أفعاله وصفاته. فيجد طريق الاسماء مندرجاً في طريق العلم بالله، إذ لا تخلو مرتبة في العالم ولا حقيقة، كما لا يخلو ما يضاهيها من السالك عن أن يكون ذاك أو ذلك في حيطة اسم أو أسماءٍ إلهية، وتلك الطريقة وإن خفت عن المبتدئين والمتوسطين من السالكين على أي طريقة من طرق المشايخ، إلا أن الكُمَّل منهم لابد لهم من ذوق ذلك المشرب المحمدي الختمي الكمالي الجامع، رضي الله عن مُظهِرِه، وبحسب وصف سيدي عبد الغني النابلسي فإنَّ الرياضة المشار إليها، لو اتقنها الكافر بتوجيه مرشدٍ صاحب علم صحيح وذوق سليم، مع خلوص النية للاطلاع على حقيقة الوجود، فلابد أن يتلقى من الأنوار ما يجلو مرآة قلبه فيسلم نفسه للحق تعالى عن ذوق.
وعلى الجملة فإن الله تعالى خلقَ العالَم وجعل له ظاهراً وباطناً، وكذلك جعل للإنسان ظاهراً وباطناً، فظاهر العالَم يُسَمَّى عالَمُ الخلق، وباطنه عالَم الأمر، فيقابل الإنسانُ ظاهرَ العالَمِ بظاهره، وباطنَ العالم بباطنه، ويداوم على تلك المقابلات، فتارةً تكون المقابلة على الإجمال، وتارة تكون على التفصيل، وأعني بالتفصيل أن يقابل كل حقيقة من حقائق العالم بالدقيقة المناسبة لها من دقائقه، كأن يستحضر أن في العالَم الأعلى موجودٌ اسمه القلم، وكذلك يوجد في عالم المحسوسات أقلاماً، ولا يكون الاشتراك بين القلم الأعلى الذي هو العقل الأول، والقلم المصنوع من حيث الشكل، بل هو اشتراكٌ معنوي. كما أن للإنسان عقلٌ يكتب في لوح نفسه، فهو كالقلم من حيث ذلك المعنى، ويرى أن نسبة عقل الإنسان إلى روحه كنسبة القلم إلى يمين الكاتب، فيعلم مِن ذلك ذوقاً أن القلم الأعلى، بل العالَم كله، في يمين الله تعالى بمعنى قريب مِن هذا المعنى، فيثبتُ لله يميناً كما أعلمنا سبحانه وتعالى عن نفسه بمثل قوله
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴿67﴾ الزمر
وينزهه سبحانه عن أن تكون كيمين المُحدثات، وهكذا ينظر في آيات الأفاق وفي نفسه كما أعلمنا سبحانه وتعالى بقوله
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴿53﴾ فصلت
فلولا أنه تعالى خلقَ العالم والإنسان على ميزانٍ واحدٍ لما تبيّن للناظر في آيات الأفاق وفي نفسه أنه الحق الواحد.
وقد بيّنا ما نبّه إليه الشيخ الأكبر رضي الله عنه من المقابلات التي بين الإنسان والعالم عند كلامنا عن المضاهاة في كتاب الطريقة الأكبرية الحاتمية، فذكرنا للمضاهاة أوجهاً لا يتسع المقام هنا لذكرها فلتُنظر هناك.
ولا يتصور أحدٌ أن طريق الاسماء مفارقٌ لطريق العِلم بالله، بل هو مندرجُ فيه كما قال الشيخ النابلسي، إذ لكل مرتبةٍ من مراتب العالَم اسمٌ إلهي يتوجه به السالك إلى الله تعالى حال مقابلته لتلك المرتبة، كما أن لكل مقابلة دعاء مخصوص من أدعية الشيخ الأكبر المسماة توجهات الحروف، فرضي الله تعالى عنه إذ نبهنا لدقائق السلوك على طريقة العلم بالله، وأعلمنا بالمناسبات الخفية بين دقائق الإنسان وحقائق العالَم وما تستند إليه كل حقيقةٍ ودقيقةٍ من حقائق الأسماء الإلهية، فجاءت طريقته جامعة للطريقتين.
وقد نبه الشيخ الأكبر إلى أن للأسماء أسرارٌ لا يطّلع عليها إلا أكابر العارفين من الملامتية حيث قال رضي الله عنه: “فاعلم أن كل اسم له حروف وعدد، ووقت واختصاص، ونظم وتكسير وتركيب، مَن وَفَّق له، فهو المُطَّلعُ على الاسم الأعظم بالنسبة إلى الكون والأكوان المختصة به، يقتضي ذلك أسماء سماوية، وعلوم علوية ملكية، بأسباب قدرية، على شرعة مخصوصة بذلك، على ذلك ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في آحاد مخصوصين، سمعهم يدعون بدعوات مخصوصة، في أوقات مخصوصة، بألفاظ مخصوصة، مختلفة التركيب في اللفظ والمعنى والمطلب، فأقسم صلى الله عليه وسلم في كل واحد منهم أنه دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى”.
فأشار إلى أهمية علم الأسماء ومعرفة مناسباتها للمطالب، وأحال طالب تحصيل ذلك العلم إلى المجاهدات والرياضات. فيستعلم الطالب من المرشد عن تلك الرياضات، ويلقن الشيخُ المريدَ الأذكار بحسب قابليته، فأما ما يتعلق بتكميل الاعتقاد اللازم للسلوك على طريقة العلم بالله فقد ذكره الشيخ الأكبر رضي الله عنه في تصانيفه بين تصريحٍ وتلميح، ولا يخلو عصرٌ ولا مصرٌ مِن شارح لكلامه في هذا الشأن، بل أن الشيخ الأكبر نفسه كثيراً ما فصّل في موضعٍ ما أجمله في غيره، ،كذا فعل تلاميذُه على مر العصور فأوضحوا ما يلزم السالك على هذه الطريقة السنية، وأما ما وراء ذلك من المضنون به على غير أهله فقد قال فيه رضي الله عنه:
وأما تعيين الألفاظ للمطالب، وذكر كيفية التركيب لها، والنص على كيفية علم المناسبة بين الأسماء والداعين والرغائب والأمكنة والأزمنة والأفعال، فباقٍ خلف حجاب الصون، وتحت رداء الستر إلى أن يتعين زعيم، ويخطب كفوء كريم، فذلك طور وراء طور العقل، منزه عن الدخول تحت أسر النقل.
وهذه نبذةٌ موجزة في التعريف بالطريقة الأكبرية الحاتمية بحسب ما وصلت إلينا كاملةً غير منقوصةٍ، فرضي الله عن شيوخنا الأمناء، وعن سائر أهل هذه السلسلة الشريفة، ورضي عنا بمحبتهم، وأعاننا في خدمة الطريقة وطالبيها، وعفا عنا فيما لا طاقة لنا به، ونسأله تعالى أن يحفظنا ويحفظ علينا ديننا وطريقتنا حتى نؤديها إلى أهلها بمحض فضله تعالى، وهو الولي لمن تولاه.
2 تعليقات
محمد عبد القادر
July 25, 2024جزاكم الله خيرا ورضي الله عنكم سيدي وعن الشيخ الأكبر محيي الدين
ربنا ينفعنا بعلمكم سيدنا ويرفع قدركم وزادكم الله من علمه اللهم آمين يارب العالمين 💐
Mohamed Nasr
July 23, 2024شكرا على هذا البيان البديع والذوق الرفيع، بارك الله في مسعاكم ونفع بكم أحباب الطريقة