بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْخَلْقِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
وَبَعْدُ:
فَيُسْعِدُنَا أَنْ نُقَدِّمَ لِلْقَارِئِ الْكَرِيمِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ ثَلَاثةَ كُتُبٍ مِنْ تَصَانِيفِ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مُحْيِي الدِّينِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَهِيَ جَمِيعًا مِنْ أَوْثَقِ مَا تَرَكَ لَنَا مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ فِي الْحَقَائِقِ وَالْإِشَارَاتِ، فَهِيَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا الْقَارِئُ الْمُحِبُّ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّأَمُّلِ لِمَا حَوَتْهُ مِنْ عِبَارَاتٍ وَإِشَارَاتٍ تَفْتَحُ لِأَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ أَبْوَابَ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَكَشْفِ الدَّقَائِقِ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ الَّذِي غَايَتُهُ النَّجَاةُ.
فَأَوَّلُ هَذَا الْمَجْمُوعِ كِتَابُ «الْعَظَمَةِ»، وَهُوَ بِحَسَبِ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْأَكْبَرُ رضي الله عنه مِنْ مَنَازِلِ «الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ»، وَعَلَى وَجْهِ التَّحْدِيدِ هُوَ الْمَنْزِلُ الْخَاصُّ بِالْقُطْبِ الْفَرْدِ الْجَامِعِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَنْزِلًا؛ لِأَنَّ لِلنَّازِلِ فِيهِ رِزْقًا عَظِيمًا، وَهُوَ مَنْزِلٌ جَامِعٌ لِمَا فِي الْمَنَازِلِ مِنَ الْعُلُومِ، وَمَنَازِلُ الْعَارِفِينَ إِنَّمَا هِيَ سُوَرُ الْقُرَآنِ، فَالسُّورَةُ هِيَ الْمَنْزِلَةُ، وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً
تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الإِمَامِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَكُلَّ مَا فِي الْفَاتِحَةِ فِي بسم الله الرحمن الرحيم
فَالْفَاتِحَةُ إِذَنْ هِيَ الْمَنْزِلُ الْجَامِعُ، مَنْزِلُ الْعَظَمَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا الشَّيْخُ الْأَكْبَرُ رضي الله عنه مِنْ جِهَةِ مَا تُعْطِيهِ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْمَعَارِفِ، وَخَصَّ مِنْهَا أَوَّلَ مَنَازِلِهَا بِالتَّشْخِيصِ، فَشَخَّصَ حُرُوفَ الْبَسْمَلَةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ الْفَنِّ تَشْخِيصًا عَجِيبًا، جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلْوُلُوجِ فِي عَوَالِمِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ، بَلْ فِي عَوَالِمِ الْقُرْآنِ لِمَنْ وَعَى.
فَإِذَا انْتَقَلْنَا إِلَى ثَانِي مَا جَمَعَهُ هَذَا الْمُجَلَّدُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَقَفْنَا عَلَى كِتَابِ «الْحُجُبِ»، وَهُوَ كِتَابٌ فَرِيدٌ مِنْ نَوْعِهِ، فَصَّلَ فِيهِ رضي الله عنه مَعْنَى الْحِجَابِ، وَمَتَى يَكُونُ الشَّيْءُ حِجَابًا، وَمَتَى يَكُونُ بَابًا لِلْوُلُوجِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، مُشِيرًا بِذَلِكَ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَمُعَرِّفًا بِمَا يُعْطِي الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ عَدَّ مَا أَرَادَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الطَّالِبُ مِنَ الْحُجُبِ؛ كَحِجَابِ الْحُبِّ، وَحِجَابِ الْعِلْمِ، وَحِجَابِ الْهَيْبَةِ، وَحِجَابِ الْعِلَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُجُبِ الَّتِي مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَفَاضَهُ رضي الله عنه فِيهَا لَمْ يَحْجُبْهُ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ.
أَمَّا الْكِتَابُ الثَّالِثُ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ خَاتَمُهُ، فَكِتَابُ «الِاتِّحَادِ الْكَوْنِيِّ»، وَهُوَ تُحْفَةٌ فَنِّيَّةٌ، تَكَلَّمَ فِيهَا رضي الله عنه عَمَّا يُعْرَفُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَالْمُتَـكَلِّمِينَ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ؛ كَالْوُجُودِ، وَالْجَوْهَرِ، وَالْوَحْدَةِ، وَالْعَقْلِ الْأَوَّلِ، وَالنَّفْسِ الْكُلِّيَّةِ، وَالْهَبَاءِ، وَالْعَالَمِ، وَالْإِنْسَانِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مُخَاطَبَاتٍ وَمُحَاوَرَاتٍ مِنْ بَدِيعِ مَا أَلَّفَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَنَا إِلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْمَجْمُوعِ الَّذِي نَرْجُو أَنْ نَـكُونَ قَدْ قَدَّمْنَاهُ بِصُورَةٍ يَرْضَى عَنْهَا الْقَارِئُ الْكَرِيمُ وَيَنْتَفِعُ بِهَا، رَاجِينَ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا فِيهِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنَّا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ.
أيمن حمدي الأكبري